ساد خطاب عربي إبان تاسيس الاسلام بعد وفاه مؤسسه بان حال العرب اصبح مختلفا . فلو عبرنا عن هذا الموقف بكلمات عصرنا الحالي في ضوء ما يسمي رده عن الاسلام - لقلنا ان العرب اعتبروا انفسهم تقدميين لمجرد نطق الشهادة واقامة فروض وشعائر وطقوس الاسلام مقارنة بحالهم قبل الاسلام وان وصف حالهم قبله بالتخلف لا يخالف حقيقة قناعتهم واطلاقهم صفة الجاهلية عليهم. لفظ التقدم بعد الشهاده يستدعي بالضرورة نقيضه وهو التراجع او الارتداد لو ان هناك عربيا مسلما عاد الي دينه القديم وعقيدته لما قبل الاسلام. فإذا كان الاسلام وقتذاك تقدما فان العوده الي دين سابق عليه هو نكوص اي ارتداد. فحرص العرب علي الاسلام إذن وكما تشهد به خطاباتهم وخطبهم مرئية ومسموعة ومقروءه هو حرص علي التقدم قناعة منهم بما تم في لحظة تاريخية منذ اكثر من 1400 عام. فهل ظل مفهوم التقدم ثابتا لم يتغير طوال هذه الفترة؟
الامر وعلي مدي اكثر من الف عام يحتاج الي مراجعه شاملة لان فكرة التقدم في حد ذاتها هي نسبية من زمن الي زمن ومن عصر الي عصر ونموذجها الانتقال من زمن العبودية وامتلاك البشر الي زمن الاقطاع، فبدلا من اسناد العمل لصاحبه كمالك لاخيه الانسان الي مفهوم الزراعة والارض وحق الارتباط بها. فالراسمالية وعصر الصناعة حاليا اكثر تقدما من نمطي الانتاج السابقين حيث الحرية في العمل واختيار الدين بل ومعارضة الامير والحاكم ايضا. فهل مازالت فكرة التقدم القديمة صالحة وهي مقرونة بالدين والانحباس في تصور واحد لعالم الغيب مع طاعة اولي الامر ، ام ان هناك متغيرات أخري جعلت الحال غير الحال، خاصة وان العبودية كعورة للانسانية ومعها فقه العبيد لازالا قائمين اسلاميا. اما الارض فان القول بان الاسلام وطن يخالف ما اتفقت البشريه جميعها عليه ؟
ففي ظل الموروث العربي الاسلامي بات مفهوم الجاهلية من عدمها او التخلف والتقدم مقرونا فقط بالدين او الانصياع لاله دون معبود آخر وهو اختزال شديد ومخل لمفهوم التقدم قديما وحديثا لم يكن الايمان يوما برهانا عليها. إضافة الي اننا اصبحنا في حاجة ملحة الي اعاده قراءة تاريخ الاسلام وخاصة فترتية المكية والمدينية بعقول أخري ومن زوايا رصد ختلفة وبمناهج بحثية اكثر رقيا مما نقله العرب الينا بطريقة العنعنة حيث ينبغي التصديق كلما زادت ثقتهم في هؤلاء الرواه حتي ولو تحدثوا احاديث تعج بالخرافة والخزعبلات.
ولنعد لفترة نحت الالفاظ التي صاحبت الفقه الاسلامي واهمها ما اطلق عليه حد الرده. فموروث العرب علي مدي فترة العمل بما ياتيهم من قائدهم من نصوص قرآنية لا يوجد بها ما يمكن ان يعتبر تشريع أو حكم علي ما يسمي رده. بل ان ذات النص القرآني يترك حق الايمان او الارتداد عنه لحرية الاختيار الفردي ولا سلطة لاحد عليه من اي نوع. ويقال في كتب السيرة ان احدي زوجات النبي من اللاتي لم يدخل بهن ارتدت وتزوجت بعد وفاه النبي فافتي ابو بكر بقتلها اثناء ولايته لكن ابن الخطاب اثناه عن ذلك وقال انها ليست من زوجاته لانه لم يدخل بها، فتركوها لتتزوج باحد المشركين. فابو بكر كان الوحيد الحريص علي محاربة من اعتبرهم هو في عرفه مرتدين إما بسبب اتخاذهم الهة من دون آلهه الاسلام أو بسبب جباية الاموال، حيث قال فيمن منع الزكاه عنه بعد توليه ولاية المسلمين "والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لجاهدتهم عليه". فكثير من القبائل التي اعتنقت الاسلام منذ فترة وجيزة وعلي نحو ظاهر، هذه القبائل اعتبرت وعلي عادات ذلك العصر ان ولائها للدين الجديد وكانه ولاء خاص لشخص النبي ويحق لهم بعد وفاته ان تسترد حريتها التقليدية. لكن الامر كان علي عكس مفاهيمهم القبلية الموروثة لان مسالة امتداد الولاء علي مساحات واسعة من اليمن جنوبا الي الشمال وحتي تبوك جعل الاحساس بان هناك امبراطورية جديدة نشات علي اساس العقيدة ولا شئ آخر سواها. فان يتم الخيار ثانية للعقيده معناه عودة للتشرزم القبلي الذي كان قبل ذلك. لهذا ولضمان الامساك بعنان كل هذه القبائل فان عمر ابن الخطاب لفت نظرهم الي المكاسب التي تنتظرهم من جراء بقائهم في ذمة الاسلام وعدم الرده الي سابق عقائدهم بان حشد منهم المقاتلين لغزو ما هو خارج جزيرة العرب باسم الفتح فتغيرت مصادر دخل سكان مكة والحجاز من جباية الداخل لتتحول الي الجباية من الخارج. لهذا اصبحت الردة معني ودلالة هي اخطر ما يفت في مصادر الثروة ومعاش الناس في جزيرتهم، فالمرتد لن تكون له حجج لغزو باقي الامصار وفرض الاتاوة عليهم.
وهناك رواية اخري تخص عبد الله ابن سعد والذي قيل بانه كاتب الوحي. روت كتب السيرة انه كان يكتب ما يمليه عليه النبي. وغفي النبي مرة وراح في نومه فاكمل الرجل الكتابة من عندياته. فلما تيقظ النبي ساله عما كتب فقرأ ما كتبه هو وليس ما كان يمليه النبي. فصدق النبي علي اقواله وقال هكذا حدثني جبريل. بعدها عاد الرجل لمسقط راسه مكه واتخذ الهة مكة بديلا عن الاسلام. فلما فتحت مكة صدرت اوامر بقتل عدد من اهلها ومنهم علي وجه الخصوص عبد الله ابن سعد هذا حتي ولو تعلق باستار الكعبة. وقام عثمان ابن عفان – اخاه في الرضاعة - بدور الوسيط لانقاذ رقبة الرجل من الحكم عليه رغم حرص النبي علي قتله كما جاء في سيرة ابن هشام ج 4.
وجاء في مواقع اخري انه عبدالله بن أبى السرح. وكان عبدالله أخا فى الرضاعة لـ«عثمان بن عفان» صاحب رسول الله, وكان قد أسلم بمكة، وهو أحد القلائل من المكيين الذين كانوا يخطون بيمينهم ويعرفون الكتابة فاتخذه النبى كاتبا للوحى، ولكنه بعد فترة أدعى أنه هو الذى كان يلقن النبى الوحى وقال إنه يأتيه مثلما يأتى «محمداً» وعاد أدراجه مرتدا لمعسكر الشرك ولم يكتف بل ظل بعدها طاعنا فى النبوة مستهزءا بالقرآن حتي بعد ولايته لمصر زمن عثمان.
لم يقف الفقهاء ودعاة التكفير طوال التاريخ عند هذه الواقعة ليناقشوا موقف الرجل بل اتخذوا من حجة الامر بقتله مبررا للقتل بشكل عام كلما كان لاحد الحجة في اختيار دين آخر غير الاسلام حتي ولو برهن عل حججه ودعاوية. ففي ضوء هذا الارتباك الحاصل في مفاهيم الاسلام وتفاسير احداثه عن الردة رغم غيابها الصريح في القرآن فان القتل تحت مسمي الرده يجعل طرح السؤال الاهم وربما الذي تاخر طرحه لاكثر من الف عام هو : هل الاسلام جبر ام اختيار؟ بل ويطرح أيضا علاقة السنة ثاني المصادر الاسلامية بعد القرآن بالسلوك الجاهلي من استباحة للقتل لاتفه الاسباب.
كان استخدام ابو بكر للفظ "لجاهدتهم" يلقي بضوء علي مفهوم ومعني الجهاد في تلك الفترة المبكرة من تاريخ الاسلام اثناء نحت وتشكيل مفرداته اللغوية ودلالتها وكيف تعمل في باطن العقل المسلم قبل ظاهريته. فلفظ "جاهدتهم" في تلك الفترة لا معني لها الا " حاربتهم" او قاتلتهم" وهو بالضبط ما حدث طوال فترة ولاية ابو بكر القصيرة. ففي حوار بين الرجلين حول شن الحرب علي من اصبحوا مرتدين جاء في كتب السيرة: وقال عمر لأبي بكر:- كيف تقاتلهم وقد قال رسول الله: أَمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه، وحسابه على الله. فقال أبو بكر : والله لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً لقاتلتهم عليه.
وهنا نكتشف عده امور اولها سن تشريع الحرب علي مسلمين ليس له في القرآن من اصل ولا في زمن النبي من جذور، إنما رفع السلاح ضد من ليس مسلما. وهو مخالف ومختلف عما كان سائدا وقتها في بلاد كثيرة ومخالف ايضا لما انجزه تطور البشرية من حقوق مدنية وسياسية واجتماعية. فالجهاد تكرر لفظا في القرآن مرات عديدة ولم يكن لابو بكر ان يستخدم شيئا خارج ما ترسخ في عقول المسلمين الاوائل بعد تلقيهم كلمات القرآن قولا وفعلا. لهذا اطاعه المسلمون واصطفوا ورائه في حروب ضد من امتنع عن دفع الزكاه (اي ضد من اضعف مصادر الدخل العام للجماعة) طبقا لمفهوم ودلالة لفظ الجهاد التي ترسخت زمن تاسيس الاسلام قبل وفاه نبيه. فلو ان للجهاد معني آخر خارج مفهوم الحرب ومفهوم ابو بكر له لحدثنا التاريخ عن خلافات بين المسلمين في موقفهم من تلك الحرب ومن حروب الاسلام ايضا في فترة استضافة يثرب للمسلمين. أما وان ينصاع الجميع وراء ابو بكر فلا معني للجهاد كنص قرآني او سياسي او من ادبيات ذلك العصر سوي اعلان الحرب والخروج للقتال حتي ولو كان الضحية مسلمين. ويصبح تاريخ الاسلام في الفترة المدينية بعد الهجرة مرورا بزمن الخلافة هي الجهاد اي الحرب بشكل دائم. هكذا مد ابو بكر الاستخدام الجهادي في الحياه لما بعد الاسلام بمعني الحرب والقتال فاصبح هو المعني الوحيد المستخدم طوال زمن غزوات العرب للاوطان خارج جزيرة العرب - تحت إمرة ابن الخطاب - باعتبار ان اهلها ليسوا مسلمين وواجب جهادهم. فدخول الاسلام إذن لكل هذه البلاد ليس سوي نتائج مكررة لدلالات الجهاد في الاسلام. وربما لهذا السبب يقال كثيرا ان الاسلام انتشر بالسيف وليس بالقناعة والحوار.
لكن الرده وتشريعها المعروف بالقتل لمن ارتد بعد استتابته لها اسباب اخري تضاف ولا تنتقص لكل ما سبق وليست بعيده عن مفاهيم القتال وتجييش الناس وتعبئتهم. فمعناها يكمن في موقف مضاد للولاء حربا وسلما مع الجماعة الاسلامية التي تصب في بعديها الاقتصادي والسياسي في نفس الوقت.
فاي ارتداد عن الاسلام يضع صاحبه خارج سرب المسلمين، ولان المسلمين في ذاك العصر هم المجاهدين اي المحاربين فان الارتداد لا يعني سوي انتقاص من عدد المقاتلين مما يؤثر علي نتائج معارك ذلك الزمان الني لم يكن للنوع تحديد نتائجها انما الحشد والتعداد والكثرة. وفي مجال العقيده فان للمرتد اسبابه ومسبباته وهو ما سيفتح نقاشا عن اسباب ذلك الفعل ويخرج لنا حوارا عن اسباب رفض الاسلام من قبل المرتد وربما يفتح بابا لمزيد من قناعات الارتداد او التشكيك في قناعات الايمان بالاسلام وهو ما يمثل خطرا علي الدين الجديد. أما من الناحية الاقتصادية فهي اضعاف لاحد مصادر الدخل من مسلم داخل المنظومة الاسلامية اما بحرمان المسلمين من التعامل معه واما بخسرانه كقوة قتال واحراز ثروات من خارج جماعة المسلمين وعلي حساب من هم اهل كتاب او من ممن لا دين لهم وواجب الجهاد ضدهم. الرده إذن كانت من الخطورة بمكان فاستوجبت اقولا من فقهاء وفتاوي من مشايخ وعمائم الاسلام يمكن ايجاز بعضها مما جاء في تصدير كتاب الدكتورة "آمال قرامي" بعنوان " قضية الرده في الفكر الاسلامي الحديث" بما نصه:
· المرتد لا يقبل منه الا الرجوع الي الدين الذي خرج منه، ولا بد من الاسلام او السيف ...... ابن حزم
· المرتد يقتل لكفره بعد ايمانه وان لم يكن محاربا ...... ابن تيمية
· المرتد قتله بضرب العنق وقيل بالخشب ويضرب حتي يصلي او يموت. قيل ويسوي عليه التراب فلا يعرف قبره ويدفن مع المسلمين .... المرتضي
· اما في الفكر الحديث فسنكتفي بقول عبد القادر عوده رغم كثرة الفتاوي " الرده جريمة يعاقب علبها بالقتل حدا طبقا لنصوص الشريعة الاسلامية"
فالارتداد وقتذاك ليس سوي كسر لشوكة المسلمين بالفاظ ودلالات ذلك العصر عقائديا وعسكريا واقتصاديا. لهذا فان كل الاحاديث عن ديموقراطية الاسلام او ان عصور الاسلام الاولي كانت ديموقراطية، بما فيها اقوال مثل من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، هي مجرد تحصيل حاصل فواقع الحال ومتطلباته من جهاد اي حرب ومعها البرجمانية العربية ومنهجها النفعي اصدق انباءا من الكتب. لهذا جاءت اقوال وفتاوي ذلك الزمان غاية في العنف واللاديموقراطية. ولن نضيع وقتا في كتب التاريخ لاثبات الطرح السابق واستدعاء شهادات وفتاوي تاريخية انما يكفي قول ابو بكر اول الخلفاء.
ولم تظهر مفاهيم اخري مختلفة متسامحة لا تقر بالقتل او تجريم فكرة الارتداد من خارج وداخل النسق الاسلامي الا بعد مرور ازمنة طويلة اتت ايضا في مقدمة كتاب " قضية الرده في الفكر الاسلامي الحديث". ومن هؤلاء مشايخ ازهريين مثل الشيخ عبد المتعال الصعيدي مثالا وليس حصرا. فان تصدر اقوال لا تقر بقتل من اختار دينه بعد ان كان مسلما من ثقافات وحضارات خارج بلاد العرب عامة والمسلمين منهم خاصة هو امر طبيعي لاختلاف التاسيس الثقافي والحضاري لهم. لكن ان يظهر من بين ظهراني المسلمين فتاوي واقوال بعدم الاعتداد بما يسمي حد الرده او المحاكمة الدينية لمن اختار دينا مخالفا بعد ان كان مسلما فهذا امر يجب الوقوف عنده قليلا لفهم ما جري علي ارض الواقع من تغيرات استلزمت مواقف جديد تخالف ما قيل يوما انه تشريع اسلامي له قدسية وحكم من احكام الاسلام.
فهناك اوطان كثيرة اقتحمها المسلمون الاوائل لنشر الدين وتحصيل الجزية منها لتصديرها الي بلاد العرب، وهي مجتمعات لا تحشد لنشر الاسلام ولا يهمها أمر العقيده داخل جمجمة الفرد طالما هو منخرط بامانة وشرف في اطر العمل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي مع ارتباطه بالارض كمعيار اولي ثابت لا يتبدل وليس الدين الذي تبدل كثيرا صعودا وهبوطا من ذات المصدر السماوي. بمعني ان الوعي التاريخي والحضاري لهذه المجتمعات ومناط الدخل ومصادر ثروتها ليست رهنا لعقيدة او ولاء ديني او عسكري. فهي تختلف إذن في اسسها وعلاقاتها الاجتماعية عما كان لدي ابن الخطاب وابو بكر وكل من اتي بعدهم للحكم بذات القيم.
لهذا السبب علي وجه التحديد نجد ان الانتشار الحديث لمفهوم الردة وحكم القتل للمرتد منوط الي انتشار افكارا من ذات المكان القديم الذي احتضن ابو بكر وعمر لكن هذه المرة برعاية اموال النفط يحملها مشايخ العنف. متناسين ان التغيرات والتبدلات التي اطاحت بمفهوم الرده طوال عصور الانفتاح علي المجتمعات الاكثر تقدما وتحضرا في العصر الحديث هي ذاتها ما تاسست عليه مجتمعات الخليج الحالية. فالنفط وعوائده نقلت مجتمعات العرب الاقحاح من فقر الي ثراء دون اي جهد من اصحابها اللهم الا التصريح بالتنقيب عنه من قبل من افلتوا من دفع الجزية في اوروبا وتابعتها الحضارية كالولايات المتحده الامريكية. فمصادر الدخل للعرب الان لم تعد الجباية من خارج اوطانهم ومع ذلك ظلوا يرددون نفس القيم التي تاسست خطأ باعتبارها اسلامية. لقد توقف الاندفاع الاسلامي قديما عند مدينة بواتييه وزمن معركة بلاط الشهداء. فلو حدث العكس وقتها ولم يخرج العرب من الاندلس لما ظهر كولومبس ولما بزغت امريكا كقوة معرفية غيرت وجه العالم علميا وتكنولوجيا بما فيها بلاد العرب التعسة التي لازالت تفتش في الرؤوس بحثا عن اسم الاله القابع بداخلها بهدف اقتلاعه واقتلاعها ايضا.
حديثا ارتكنت الفتاوي التي تقر بحرية الخيار الديني وتنحاز لموقف انساني متحضر وحديث مع تطور البشرية. ولم يكن ممكنا النظر مجددا في كثير من الفتاوي القديمة الا بسبب التماس مع ثقافات اكثر استنارة وتثق بقدرة الفرد علي الاعتداد بقناعاته الدينية والقدرة علي الدفاع عنها دون خوف أو رهبة من عقاب وضعت تشريعاته في زمن الحروب من علي ظهور الدواب والابل. فلم يعد الكم والحشد بقدر الاستطاعة من الخيل المسومة والابل او الاعداد بقدر الاستطاعة من قوة ومن رباط الخيل لارهاب عدو الله وعدوهم قائما لان الكيف وليس الكم اصبحت له الكلمة العليا في تحديد النتائج ولعل هزيمة يونيو 67 وما تلاها كاف لاثبات تحولات الحرب. فالجيوش الحديثة لها ولاءات غير دينية وجنودها ينتمون لنحل واديان وعقائد كثيرة. سبب آخر جعل من نجاح الديموقرطية في اوطان كثيرة ان تقلصت وتراجعت مفاهيم الجبر وحل محلها مفاهيم الاختيار والاختلاف بما يفرضه من تشريعات تعتبر الجبر هو اعتداء علي حقوق طبيعية هي معطي منذ الازل ولم تعطلها سوي ظروف تاريخية وتشريعت دينية ارتهنت الي قوي خارج الكون لا تعمل الطبيعة الانسانية علي تنمية افكارها او تزودها بما يحقق انسانية الفرد. إضافة الي ان الولاء للعقيده لم يعد مصدرا من مصادر جلب الثروة كما كان هو الحال زمن انتشار الاسلام وهو فارق هام وحاسم جعل من الديموقراطية النابعة من حق العمل والانتاج حقا طبيعيا للفرد.
وللامانة فحاول بعض من المستنيرين فض الاشتباك بين حرية العقيده وتشريعات الفقهاء فقدموا قراءات معاصرة لمفهوم الردة وتركزت حول معنين كلاهما صحيح. أولهما إثبات ضعف سند الاحاديث الذى أخرجها «البخارى». وثانيهما حول تناقض معنى الحديث مع صريح آيات القرآن الكريم عن حرية العقيدة. ورغم ذلك ظل حب الولوغ في الدماء وحب قطع الرقاب محمولا في العقل االاسلامي بجذره العربي الجاهلي.
اما المرجعية الاكثر احقاقا لحق البشر في اختيار عقائدهم وعملهم ومداخليهم وثروتهم فقد اتت من الوثيقة العالمية لحقوق الانسان وتتناقض في تاسيسها مع فاهيم العصور القديمة منذ ابو بكر مرورا بابن حزم وابن تيمية ووصولا الي عبد القادر عوده او مبادرات الاخوان المسلمين حاليا في مجلس الشعب المصري حيث قدموا مشروع قانون من احد عشر بندا تحت مسمي قانون الرده. وقبلها قدموا مشروعا لجمع الزكاه بالقوة. فجماعات الاسلام السياسي وعلي رأسهم الاخوان المسلمين تريد الحكم وارهاب المجتمع باسهل ما جاء في تاريخ القانون ونظم العقوبات تحت مسمي الشريعة استسهالا منهم ومغازلة لمواطنين تمكن منهم الجهل وعدم معرفة حقائق التاريخ فخسروا قدرا ليس بالقليل من قواهم الفكرية والعقلية.
ففي ضوء هذا الارتباك الحاصل في مفاهيم الاسلام فان القتل تحت مسمي الرده يجعل سؤال الجبر ام الاختيار ضرورة. وهو سؤال يجب طرحه واستخلاص اجابة عنه زمن المسلمين الاوائل وهو امر يحتاج الي جهد لاعاده قراءة تاريخ العرب والاسلام بعيون مختلفة. اما الاجابة الحديثة طبقا لما تعيشه البشرية حاليا فالاجابة عليه واضحة وصريحة لا تحتاج الي فقهاء ومشايخ. وبها تصبح الرده شئ من مخلفات الماضي.
الاجابة علي هذا السؤال ستحدد كثيرا من قناعاتنا بين ما ورثناه من ماضي لم يات باي تقدم او حرية وبين مكتسباتنا في عصور التماس مع باقي الثقافات الاكثر انفتاحا علي المعارف بتعددها والاديان بتنوعها والثقافات بثرائها إضافة للتغيرات التي طرات علي منطقتنا التعسة بثقافتها القمعية. وعليه فان التناقض الحاد الحادث بين قول القرآن "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" وبين شريعة ابو بكر الصديق، وتلك كنيته، اي الذي صدق ما سمعه في اول الدعوة وكان ثان اثنين في الغار، يجعلنا كمواطنين في دول الشرق الاوسط نتوقف قليلا لنحتكم الي عقولنا لما جري في تاريخ المنطقة من تناقضات زاد من بلتها اعتبار المسلمون الاوائل مرضي عنهم ويزيدها بله ثروة النفط واهلها الذي يخافون من التماس مع ثقافات العالم المتعددة رغم ابتلاعم وغرقهم في كل منتجات من اعتبروهم كفارا ومرتدين واصحاب عقائد فاسدة من تكنولوجيا ورفاهية دون اي بادرة اصلاح للعقل او للموروث القديم من ابو بكر قديما وحتي ابن لادن حديثا.
الامر وعلي مدي اكثر من الف عام يحتاج الي مراجعه شاملة لان فكرة التقدم في حد ذاتها هي نسبية من زمن الي زمن ومن عصر الي عصر ونموذجها الانتقال من زمن العبودية وامتلاك البشر الي زمن الاقطاع، فبدلا من اسناد العمل لصاحبه كمالك لاخيه الانسان الي مفهوم الزراعة والارض وحق الارتباط بها. فالراسمالية وعصر الصناعة حاليا اكثر تقدما من نمطي الانتاج السابقين حيث الحرية في العمل واختيار الدين بل ومعارضة الامير والحاكم ايضا. فهل مازالت فكرة التقدم القديمة صالحة وهي مقرونة بالدين والانحباس في تصور واحد لعالم الغيب مع طاعة اولي الامر ، ام ان هناك متغيرات أخري جعلت الحال غير الحال، خاصة وان العبودية كعورة للانسانية ومعها فقه العبيد لازالا قائمين اسلاميا. اما الارض فان القول بان الاسلام وطن يخالف ما اتفقت البشريه جميعها عليه ؟
ففي ظل الموروث العربي الاسلامي بات مفهوم الجاهلية من عدمها او التخلف والتقدم مقرونا فقط بالدين او الانصياع لاله دون معبود آخر وهو اختزال شديد ومخل لمفهوم التقدم قديما وحديثا لم يكن الايمان يوما برهانا عليها. إضافة الي اننا اصبحنا في حاجة ملحة الي اعاده قراءة تاريخ الاسلام وخاصة فترتية المكية والمدينية بعقول أخري ومن زوايا رصد ختلفة وبمناهج بحثية اكثر رقيا مما نقله العرب الينا بطريقة العنعنة حيث ينبغي التصديق كلما زادت ثقتهم في هؤلاء الرواه حتي ولو تحدثوا احاديث تعج بالخرافة والخزعبلات.
ولنعد لفترة نحت الالفاظ التي صاحبت الفقه الاسلامي واهمها ما اطلق عليه حد الرده. فموروث العرب علي مدي فترة العمل بما ياتيهم من قائدهم من نصوص قرآنية لا يوجد بها ما يمكن ان يعتبر تشريع أو حكم علي ما يسمي رده. بل ان ذات النص القرآني يترك حق الايمان او الارتداد عنه لحرية الاختيار الفردي ولا سلطة لاحد عليه من اي نوع. ويقال في كتب السيرة ان احدي زوجات النبي من اللاتي لم يدخل بهن ارتدت وتزوجت بعد وفاه النبي فافتي ابو بكر بقتلها اثناء ولايته لكن ابن الخطاب اثناه عن ذلك وقال انها ليست من زوجاته لانه لم يدخل بها، فتركوها لتتزوج باحد المشركين. فابو بكر كان الوحيد الحريص علي محاربة من اعتبرهم هو في عرفه مرتدين إما بسبب اتخاذهم الهة من دون آلهه الاسلام أو بسبب جباية الاموال، حيث قال فيمن منع الزكاه عنه بعد توليه ولاية المسلمين "والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لجاهدتهم عليه". فكثير من القبائل التي اعتنقت الاسلام منذ فترة وجيزة وعلي نحو ظاهر، هذه القبائل اعتبرت وعلي عادات ذلك العصر ان ولائها للدين الجديد وكانه ولاء خاص لشخص النبي ويحق لهم بعد وفاته ان تسترد حريتها التقليدية. لكن الامر كان علي عكس مفاهيمهم القبلية الموروثة لان مسالة امتداد الولاء علي مساحات واسعة من اليمن جنوبا الي الشمال وحتي تبوك جعل الاحساس بان هناك امبراطورية جديدة نشات علي اساس العقيدة ولا شئ آخر سواها. فان يتم الخيار ثانية للعقيده معناه عودة للتشرزم القبلي الذي كان قبل ذلك. لهذا ولضمان الامساك بعنان كل هذه القبائل فان عمر ابن الخطاب لفت نظرهم الي المكاسب التي تنتظرهم من جراء بقائهم في ذمة الاسلام وعدم الرده الي سابق عقائدهم بان حشد منهم المقاتلين لغزو ما هو خارج جزيرة العرب باسم الفتح فتغيرت مصادر دخل سكان مكة والحجاز من جباية الداخل لتتحول الي الجباية من الخارج. لهذا اصبحت الردة معني ودلالة هي اخطر ما يفت في مصادر الثروة ومعاش الناس في جزيرتهم، فالمرتد لن تكون له حجج لغزو باقي الامصار وفرض الاتاوة عليهم.
وهناك رواية اخري تخص عبد الله ابن سعد والذي قيل بانه كاتب الوحي. روت كتب السيرة انه كان يكتب ما يمليه عليه النبي. وغفي النبي مرة وراح في نومه فاكمل الرجل الكتابة من عندياته. فلما تيقظ النبي ساله عما كتب فقرأ ما كتبه هو وليس ما كان يمليه النبي. فصدق النبي علي اقواله وقال هكذا حدثني جبريل. بعدها عاد الرجل لمسقط راسه مكه واتخذ الهة مكة بديلا عن الاسلام. فلما فتحت مكة صدرت اوامر بقتل عدد من اهلها ومنهم علي وجه الخصوص عبد الله ابن سعد هذا حتي ولو تعلق باستار الكعبة. وقام عثمان ابن عفان – اخاه في الرضاعة - بدور الوسيط لانقاذ رقبة الرجل من الحكم عليه رغم حرص النبي علي قتله كما جاء في سيرة ابن هشام ج 4.
وجاء في مواقع اخري انه عبدالله بن أبى السرح. وكان عبدالله أخا فى الرضاعة لـ«عثمان بن عفان» صاحب رسول الله, وكان قد أسلم بمكة، وهو أحد القلائل من المكيين الذين كانوا يخطون بيمينهم ويعرفون الكتابة فاتخذه النبى كاتبا للوحى، ولكنه بعد فترة أدعى أنه هو الذى كان يلقن النبى الوحى وقال إنه يأتيه مثلما يأتى «محمداً» وعاد أدراجه مرتدا لمعسكر الشرك ولم يكتف بل ظل بعدها طاعنا فى النبوة مستهزءا بالقرآن حتي بعد ولايته لمصر زمن عثمان.
لم يقف الفقهاء ودعاة التكفير طوال التاريخ عند هذه الواقعة ليناقشوا موقف الرجل بل اتخذوا من حجة الامر بقتله مبررا للقتل بشكل عام كلما كان لاحد الحجة في اختيار دين آخر غير الاسلام حتي ولو برهن عل حججه ودعاوية. ففي ضوء هذا الارتباك الحاصل في مفاهيم الاسلام وتفاسير احداثه عن الردة رغم غيابها الصريح في القرآن فان القتل تحت مسمي الرده يجعل طرح السؤال الاهم وربما الذي تاخر طرحه لاكثر من الف عام هو : هل الاسلام جبر ام اختيار؟ بل ويطرح أيضا علاقة السنة ثاني المصادر الاسلامية بعد القرآن بالسلوك الجاهلي من استباحة للقتل لاتفه الاسباب.
كان استخدام ابو بكر للفظ "لجاهدتهم" يلقي بضوء علي مفهوم ومعني الجهاد في تلك الفترة المبكرة من تاريخ الاسلام اثناء نحت وتشكيل مفرداته اللغوية ودلالتها وكيف تعمل في باطن العقل المسلم قبل ظاهريته. فلفظ "جاهدتهم" في تلك الفترة لا معني لها الا " حاربتهم" او قاتلتهم" وهو بالضبط ما حدث طوال فترة ولاية ابو بكر القصيرة. ففي حوار بين الرجلين حول شن الحرب علي من اصبحوا مرتدين جاء في كتب السيرة: وقال عمر لأبي بكر:- كيف تقاتلهم وقد قال رسول الله: أَمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه، وحسابه على الله. فقال أبو بكر : والله لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً لقاتلتهم عليه.
وهنا نكتشف عده امور اولها سن تشريع الحرب علي مسلمين ليس له في القرآن من اصل ولا في زمن النبي من جذور، إنما رفع السلاح ضد من ليس مسلما. وهو مخالف ومختلف عما كان سائدا وقتها في بلاد كثيرة ومخالف ايضا لما انجزه تطور البشرية من حقوق مدنية وسياسية واجتماعية. فالجهاد تكرر لفظا في القرآن مرات عديدة ولم يكن لابو بكر ان يستخدم شيئا خارج ما ترسخ في عقول المسلمين الاوائل بعد تلقيهم كلمات القرآن قولا وفعلا. لهذا اطاعه المسلمون واصطفوا ورائه في حروب ضد من امتنع عن دفع الزكاه (اي ضد من اضعف مصادر الدخل العام للجماعة) طبقا لمفهوم ودلالة لفظ الجهاد التي ترسخت زمن تاسيس الاسلام قبل وفاه نبيه. فلو ان للجهاد معني آخر خارج مفهوم الحرب ومفهوم ابو بكر له لحدثنا التاريخ عن خلافات بين المسلمين في موقفهم من تلك الحرب ومن حروب الاسلام ايضا في فترة استضافة يثرب للمسلمين. أما وان ينصاع الجميع وراء ابو بكر فلا معني للجهاد كنص قرآني او سياسي او من ادبيات ذلك العصر سوي اعلان الحرب والخروج للقتال حتي ولو كان الضحية مسلمين. ويصبح تاريخ الاسلام في الفترة المدينية بعد الهجرة مرورا بزمن الخلافة هي الجهاد اي الحرب بشكل دائم. هكذا مد ابو بكر الاستخدام الجهادي في الحياه لما بعد الاسلام بمعني الحرب والقتال فاصبح هو المعني الوحيد المستخدم طوال زمن غزوات العرب للاوطان خارج جزيرة العرب - تحت إمرة ابن الخطاب - باعتبار ان اهلها ليسوا مسلمين وواجب جهادهم. فدخول الاسلام إذن لكل هذه البلاد ليس سوي نتائج مكررة لدلالات الجهاد في الاسلام. وربما لهذا السبب يقال كثيرا ان الاسلام انتشر بالسيف وليس بالقناعة والحوار.
لكن الرده وتشريعها المعروف بالقتل لمن ارتد بعد استتابته لها اسباب اخري تضاف ولا تنتقص لكل ما سبق وليست بعيده عن مفاهيم القتال وتجييش الناس وتعبئتهم. فمعناها يكمن في موقف مضاد للولاء حربا وسلما مع الجماعة الاسلامية التي تصب في بعديها الاقتصادي والسياسي في نفس الوقت.
فاي ارتداد عن الاسلام يضع صاحبه خارج سرب المسلمين، ولان المسلمين في ذاك العصر هم المجاهدين اي المحاربين فان الارتداد لا يعني سوي انتقاص من عدد المقاتلين مما يؤثر علي نتائج معارك ذلك الزمان الني لم يكن للنوع تحديد نتائجها انما الحشد والتعداد والكثرة. وفي مجال العقيده فان للمرتد اسبابه ومسبباته وهو ما سيفتح نقاشا عن اسباب ذلك الفعل ويخرج لنا حوارا عن اسباب رفض الاسلام من قبل المرتد وربما يفتح بابا لمزيد من قناعات الارتداد او التشكيك في قناعات الايمان بالاسلام وهو ما يمثل خطرا علي الدين الجديد. أما من الناحية الاقتصادية فهي اضعاف لاحد مصادر الدخل من مسلم داخل المنظومة الاسلامية اما بحرمان المسلمين من التعامل معه واما بخسرانه كقوة قتال واحراز ثروات من خارج جماعة المسلمين وعلي حساب من هم اهل كتاب او من ممن لا دين لهم وواجب الجهاد ضدهم. الرده إذن كانت من الخطورة بمكان فاستوجبت اقولا من فقهاء وفتاوي من مشايخ وعمائم الاسلام يمكن ايجاز بعضها مما جاء في تصدير كتاب الدكتورة "آمال قرامي" بعنوان " قضية الرده في الفكر الاسلامي الحديث" بما نصه:
· المرتد لا يقبل منه الا الرجوع الي الدين الذي خرج منه، ولا بد من الاسلام او السيف ...... ابن حزم
· المرتد يقتل لكفره بعد ايمانه وان لم يكن محاربا ...... ابن تيمية
· المرتد قتله بضرب العنق وقيل بالخشب ويضرب حتي يصلي او يموت. قيل ويسوي عليه التراب فلا يعرف قبره ويدفن مع المسلمين .... المرتضي
· اما في الفكر الحديث فسنكتفي بقول عبد القادر عوده رغم كثرة الفتاوي " الرده جريمة يعاقب علبها بالقتل حدا طبقا لنصوص الشريعة الاسلامية"
فالارتداد وقتذاك ليس سوي كسر لشوكة المسلمين بالفاظ ودلالات ذلك العصر عقائديا وعسكريا واقتصاديا. لهذا فان كل الاحاديث عن ديموقراطية الاسلام او ان عصور الاسلام الاولي كانت ديموقراطية، بما فيها اقوال مثل من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، هي مجرد تحصيل حاصل فواقع الحال ومتطلباته من جهاد اي حرب ومعها البرجمانية العربية ومنهجها النفعي اصدق انباءا من الكتب. لهذا جاءت اقوال وفتاوي ذلك الزمان غاية في العنف واللاديموقراطية. ولن نضيع وقتا في كتب التاريخ لاثبات الطرح السابق واستدعاء شهادات وفتاوي تاريخية انما يكفي قول ابو بكر اول الخلفاء.
ولم تظهر مفاهيم اخري مختلفة متسامحة لا تقر بالقتل او تجريم فكرة الارتداد من خارج وداخل النسق الاسلامي الا بعد مرور ازمنة طويلة اتت ايضا في مقدمة كتاب " قضية الرده في الفكر الاسلامي الحديث". ومن هؤلاء مشايخ ازهريين مثل الشيخ عبد المتعال الصعيدي مثالا وليس حصرا. فان تصدر اقوال لا تقر بقتل من اختار دينه بعد ان كان مسلما من ثقافات وحضارات خارج بلاد العرب عامة والمسلمين منهم خاصة هو امر طبيعي لاختلاف التاسيس الثقافي والحضاري لهم. لكن ان يظهر من بين ظهراني المسلمين فتاوي واقوال بعدم الاعتداد بما يسمي حد الرده او المحاكمة الدينية لمن اختار دينا مخالفا بعد ان كان مسلما فهذا امر يجب الوقوف عنده قليلا لفهم ما جري علي ارض الواقع من تغيرات استلزمت مواقف جديد تخالف ما قيل يوما انه تشريع اسلامي له قدسية وحكم من احكام الاسلام.
فهناك اوطان كثيرة اقتحمها المسلمون الاوائل لنشر الدين وتحصيل الجزية منها لتصديرها الي بلاد العرب، وهي مجتمعات لا تحشد لنشر الاسلام ولا يهمها أمر العقيده داخل جمجمة الفرد طالما هو منخرط بامانة وشرف في اطر العمل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي مع ارتباطه بالارض كمعيار اولي ثابت لا يتبدل وليس الدين الذي تبدل كثيرا صعودا وهبوطا من ذات المصدر السماوي. بمعني ان الوعي التاريخي والحضاري لهذه المجتمعات ومناط الدخل ومصادر ثروتها ليست رهنا لعقيدة او ولاء ديني او عسكري. فهي تختلف إذن في اسسها وعلاقاتها الاجتماعية عما كان لدي ابن الخطاب وابو بكر وكل من اتي بعدهم للحكم بذات القيم.
لهذا السبب علي وجه التحديد نجد ان الانتشار الحديث لمفهوم الردة وحكم القتل للمرتد منوط الي انتشار افكارا من ذات المكان القديم الذي احتضن ابو بكر وعمر لكن هذه المرة برعاية اموال النفط يحملها مشايخ العنف. متناسين ان التغيرات والتبدلات التي اطاحت بمفهوم الرده طوال عصور الانفتاح علي المجتمعات الاكثر تقدما وتحضرا في العصر الحديث هي ذاتها ما تاسست عليه مجتمعات الخليج الحالية. فالنفط وعوائده نقلت مجتمعات العرب الاقحاح من فقر الي ثراء دون اي جهد من اصحابها اللهم الا التصريح بالتنقيب عنه من قبل من افلتوا من دفع الجزية في اوروبا وتابعتها الحضارية كالولايات المتحده الامريكية. فمصادر الدخل للعرب الان لم تعد الجباية من خارج اوطانهم ومع ذلك ظلوا يرددون نفس القيم التي تاسست خطأ باعتبارها اسلامية. لقد توقف الاندفاع الاسلامي قديما عند مدينة بواتييه وزمن معركة بلاط الشهداء. فلو حدث العكس وقتها ولم يخرج العرب من الاندلس لما ظهر كولومبس ولما بزغت امريكا كقوة معرفية غيرت وجه العالم علميا وتكنولوجيا بما فيها بلاد العرب التعسة التي لازالت تفتش في الرؤوس بحثا عن اسم الاله القابع بداخلها بهدف اقتلاعه واقتلاعها ايضا.
حديثا ارتكنت الفتاوي التي تقر بحرية الخيار الديني وتنحاز لموقف انساني متحضر وحديث مع تطور البشرية. ولم يكن ممكنا النظر مجددا في كثير من الفتاوي القديمة الا بسبب التماس مع ثقافات اكثر استنارة وتثق بقدرة الفرد علي الاعتداد بقناعاته الدينية والقدرة علي الدفاع عنها دون خوف أو رهبة من عقاب وضعت تشريعاته في زمن الحروب من علي ظهور الدواب والابل. فلم يعد الكم والحشد بقدر الاستطاعة من الخيل المسومة والابل او الاعداد بقدر الاستطاعة من قوة ومن رباط الخيل لارهاب عدو الله وعدوهم قائما لان الكيف وليس الكم اصبحت له الكلمة العليا في تحديد النتائج ولعل هزيمة يونيو 67 وما تلاها كاف لاثبات تحولات الحرب. فالجيوش الحديثة لها ولاءات غير دينية وجنودها ينتمون لنحل واديان وعقائد كثيرة. سبب آخر جعل من نجاح الديموقرطية في اوطان كثيرة ان تقلصت وتراجعت مفاهيم الجبر وحل محلها مفاهيم الاختيار والاختلاف بما يفرضه من تشريعات تعتبر الجبر هو اعتداء علي حقوق طبيعية هي معطي منذ الازل ولم تعطلها سوي ظروف تاريخية وتشريعت دينية ارتهنت الي قوي خارج الكون لا تعمل الطبيعة الانسانية علي تنمية افكارها او تزودها بما يحقق انسانية الفرد. إضافة الي ان الولاء للعقيده لم يعد مصدرا من مصادر جلب الثروة كما كان هو الحال زمن انتشار الاسلام وهو فارق هام وحاسم جعل من الديموقراطية النابعة من حق العمل والانتاج حقا طبيعيا للفرد.
وللامانة فحاول بعض من المستنيرين فض الاشتباك بين حرية العقيده وتشريعات الفقهاء فقدموا قراءات معاصرة لمفهوم الردة وتركزت حول معنين كلاهما صحيح. أولهما إثبات ضعف سند الاحاديث الذى أخرجها «البخارى». وثانيهما حول تناقض معنى الحديث مع صريح آيات القرآن الكريم عن حرية العقيدة. ورغم ذلك ظل حب الولوغ في الدماء وحب قطع الرقاب محمولا في العقل االاسلامي بجذره العربي الجاهلي.
اما المرجعية الاكثر احقاقا لحق البشر في اختيار عقائدهم وعملهم ومداخليهم وثروتهم فقد اتت من الوثيقة العالمية لحقوق الانسان وتتناقض في تاسيسها مع فاهيم العصور القديمة منذ ابو بكر مرورا بابن حزم وابن تيمية ووصولا الي عبد القادر عوده او مبادرات الاخوان المسلمين حاليا في مجلس الشعب المصري حيث قدموا مشروع قانون من احد عشر بندا تحت مسمي قانون الرده. وقبلها قدموا مشروعا لجمع الزكاه بالقوة. فجماعات الاسلام السياسي وعلي رأسهم الاخوان المسلمين تريد الحكم وارهاب المجتمع باسهل ما جاء في تاريخ القانون ونظم العقوبات تحت مسمي الشريعة استسهالا منهم ومغازلة لمواطنين تمكن منهم الجهل وعدم معرفة حقائق التاريخ فخسروا قدرا ليس بالقليل من قواهم الفكرية والعقلية.
ففي ضوء هذا الارتباك الحاصل في مفاهيم الاسلام فان القتل تحت مسمي الرده يجعل سؤال الجبر ام الاختيار ضرورة. وهو سؤال يجب طرحه واستخلاص اجابة عنه زمن المسلمين الاوائل وهو امر يحتاج الي جهد لاعاده قراءة تاريخ العرب والاسلام بعيون مختلفة. اما الاجابة الحديثة طبقا لما تعيشه البشرية حاليا فالاجابة عليه واضحة وصريحة لا تحتاج الي فقهاء ومشايخ. وبها تصبح الرده شئ من مخلفات الماضي.
الاجابة علي هذا السؤال ستحدد كثيرا من قناعاتنا بين ما ورثناه من ماضي لم يات باي تقدم او حرية وبين مكتسباتنا في عصور التماس مع باقي الثقافات الاكثر انفتاحا علي المعارف بتعددها والاديان بتنوعها والثقافات بثرائها إضافة للتغيرات التي طرات علي منطقتنا التعسة بثقافتها القمعية. وعليه فان التناقض الحاد الحادث بين قول القرآن "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" وبين شريعة ابو بكر الصديق، وتلك كنيته، اي الذي صدق ما سمعه في اول الدعوة وكان ثان اثنين في الغار، يجعلنا كمواطنين في دول الشرق الاوسط نتوقف قليلا لنحتكم الي عقولنا لما جري في تاريخ المنطقة من تناقضات زاد من بلتها اعتبار المسلمون الاوائل مرضي عنهم ويزيدها بله ثروة النفط واهلها الذي يخافون من التماس مع ثقافات العالم المتعددة رغم ابتلاعم وغرقهم في كل منتجات من اعتبروهم كفارا ومرتدين واصحاب عقائد فاسدة من تكنولوجيا ورفاهية دون اي بادرة اصلاح للعقل او للموروث القديم من ابو بكر قديما وحتي ابن لادن حديثا.