الثلاثاء، 5 مايو 2009

وكان فضل الاحتلال عليك عظيما

أخيرا جرت الانتخابات العراقية لاختيار حكومة. وتعالت أصوات كثيرة منها القومي ومنها الإسلامي على اختلاف درجاتهم المتراوحة بين الفاشية والإرهاب، معتبرين أنها انتخابات غير شرعية بسب الاحتلال. ويغض المعترضون ضمن فصائل التطرف بنوعيه عن كون الذاهبين لصناديق الانتخاب والمدلين بأصواتهم هم العراقيون وليس جنود المارينز أو قوات التحالف. وان المرشحين هم من أبناء العراق وليس بينهم من اسمه جوني أو مادونا. أي أن العملية برمتها وكامل فعالياتها عراقية صرفة. فلأول مرة يختار شعب العراق حكومته في تاريخ العراق القومي الحديث. فهل كان لدي العراقيين سبيل تحت أي حكم قومي عروبي يضمر إسلاما متطرفا تشي به شعاراته الحزبية "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة" لمثل تلك الفعاليات؟

تسارع العراقيين على الانتخاب والمشاركة وهو صك الشرعية لهم مستقبلا. فمستقبلهم سوف تحدده توازنات جديدة بين كل أطياف اللحمة العراقية. فالعراق من أكثر دول منطقة الشرق الأوسط استثناء في مسالة التعددية الدينية والعرقية والعشائرية والطائفية. فمن هو إذن الحامل للسلاح والمقاتل ضد الشعب العراقي بأكثر مما يقاوم به قوات التحالف؟ وفي نفس الوقت رافضا الانتخابات ليس فقط في زمن الحرب بل في زمن صدام ومده العروبي أو في المجتمعات ذات الصبغة الأصولية الإسلامية التي تعتبر الانتخاب كفرا أو على الأقل مخالفا لقواعد الدين الإسلامي. لقد حسمت الانتخابات الأخيرة الموقف الديموقراطي في أكثر بلاد الشرق الأوسط عنفا ودكتاتورية. فنسبة الـ 72% حضورا للناخبين تفوق بمراحل نسبة الحضور في أكثر بلاد المنطقة أمنا وأمانا.

فرسالة العرب إلى من جاورهم من شعوب في مصر والشام واليمن وإيران وتركيا وغربا إلى الأندلس هي الإسلام. وليس هناك في جعبة العرب من رسائل أخرى يمكنهم أن يتواصلوا بها مع الشعوب المحيطة بهم سوي الدين. وقد كان بالفعل من خلال الغزوات الموسعة لإيصال الرسالة. فشعار حزب البعث العراقي صاحب الرسالة الخالدة والذي قد يخدعنا بأنه حزب علماني اعتبر العراق مغنما وجعل من السنة العرب ركيزة للحكم حتى ولو أدخلت عناصر من غير المسلمين إلى صفوفه الأولى وتولت مناصب سيادية لا هدف منها سوي ضمان الولاءات لكل أطياف العراقيين وليس بهدف تمثيل متوازن لها، أو اعتبارا لمصالحهم. إلا أن القول الفصل ونهايات الأمور في كل مناحي الحياة في العراق كانت لصالح هذه الفئة والطائفة والعشيرة التي رفعت شعار العروبة ومبطنة الحكم الديني ولو بعد حين. منها على سبيل المثال لا الحصر، أن ثمن السلعة – أي سلعة – في تكريت وداخل المثلث السني كانت بنصف ثمنها في باقي العراق. فعلى ماذا اعترض المعترضون على الانتخابات وعلى أي أساس أقاموا رفضهم؟

فتحت وابل القصف العشوائي وتفجير المفخخات من بقايا نظام البعث ومعهم فضلات المجاهدين في أفغانستان، قال العراقيون كلمتهم برفضهم كلا الطرفين ومعهم الاحتلال الأجنبي أيضا. فالاحتلال الجديد كما هو حال الشعوب يسعى لإيجاد نظام يقبل بالتعددية وتداول السلطة والتعايش السلمي بين كل القوي الاجتماعية. تصميم العراقيين للوقوف أمام صندوق الانتخاب وتأكدهم من الإدلاء بصوتهم هو رسالة إلى الاحتلال بان دورك انتهي. هنا تلاقت ارادتين من الداخل في مطالب الشعب بالديموقراطية والغرب الذي بات مطالبا بها بعد أحداث سبتمبر. وهي نفس الارادات التي ظلت على طرفي نقيض منذ أتت حركة الانقلابات العسكرية في شرقنا الوسطي بنهاية الأربعينات وبدايات الخمسينات من القرن الماضي. انتخابات العراق أتت لنا بشرعية قائمة على أسس صحيحة وهي الاختيار الحر بين المتساويين في الترشيح. بينما الشرعيات المزعومة التي حكمت المنطقة طوال الخمسين عاما الماضية أتت كلها أيضا في ظل احتلال دون انتخاب حر واعتبرت نفسها شرعية. حركة ضباط يوليو اكتسبت شرعية ومصر تحت الاحتلال البريطاني. فهل يحق لنا إضافة فارق هام بين الاستعمار القديم والاحتلال الحديث في أن الأول يرحل بعد أن تأتى الفاشية إلى سدة الحكم بينما الحديث يسعى لمجيء الديموقراطية. الأمثلة التي تتفق وتلك الحسبة كثيرة لو استعرضنا دول المنطقة. بيّن أن الجديد هو الانتخاب والذي هو مناط الشرعية الحقيقي وكان هو البند الأخير في المبادئ الست لثورة يوليو العسكرية الذي لم يتحقق في مصر المحروسة بعد. فالاحتلال زائل لا محالة، بينما واقع حال المنطقة لا يشي بأي بادرة ديموقراطية حقيقة تأتى بنسبة حضور عالية كهذه لإقامة ديموقراطية سليمة تمنع استحضاره مرة أخري.

أكثر ما يهم ساكني الشرق الأوسط أن درس الاستقلال على يد الاستبداد ( العادل ) أتي بالاحتلال الأجنبي ثانية. لا لسبب سوي أن مثل هذا النظام بات متناقضا وبشكل رئيسي مع تطورات حركة البشر من خارج الدائرة العربية على وجه الخصوص. بينما الدائرة الإسلامية المتهمة بذات الأمر من خارج المنطقة العربية باتت بها بعض الشواهد الديموقراطية أي ممارسة العملية الانتخابية طالما كانت الثقافة العربية غائبة عنها. فرقعة الممارسة الديموقراطية في البلاد ذات المكون الإسلامي تزداد طرديا كلما ابتعدت بلادها عن المنطقة العربية، كإيران وتركيا والجزائر في القرب وإندونيسيا وباكستان من بعيد.

قضية الديموقراطية بدت هاجسا ومطلبا عالميا يتضامن فيه أهل الداخل التعس مع العالم من خارج دول الشرق الأوسط. ولعل التحولات المعرفية والكشوف العلمية طبيعية كانت أم اجتماعية قد ساعدت العقل الأوروبي والغربي عامة على اجتياز الحاجز بين الفاشية والديموقراطية. لكن هناك أمثلة أخرى جعلت من الحرب والاكتواء بنيرانها سببا للهروب إلى الديموقراطية والتحديث المجتمعي وإصلاح أمرهم واللحاق بركب المتحضرين كما في اليابان التي بدأت نهضتها متزامنة مع مصر في زمن محمد على.

العراقيون في حضورهم الطاغي للانتخاب دشنوا وثيقة تقول برفض كل المقولات العروبية والسلفية التي تجرم الانتخاب وهو ما كانت تنفذه النظم القومية دون تصريح أو فتاوى هم ليسوا بحاجة لها ومتفقة مع توجهات الغرب طوال عصر الحرب الباردة. فالقائد الكارزمي صاحب الخطاب الشعبوي كفيل بان يغشي الأبصار والأسماع. فيكفيه أن يجمع عليه الناس باستفتاء لا محدد لقواعده حتى يتولى كل المهام طبقا لتنظيرات الساسة الأمريكيين زمن الحرب الباردة، حين تبنت واشنطون مقولات فلاسفة السياسة كما لخصها كتاب " لعبة الأمم " صـ 83 في بحثهم عن زعيم كاريزمي لمصر. فيقول الكتاب " لقد كنا بحاجة إلى حاكم عربي يجمع بكلتا يديه سلطات تفوق كل ما تيسر لحاكم عربي آخر من قبل. سلطات تأنف منها الشعوب وتأباها. وكان علينا أن ننشد ضالتنا في رجل متعطش إلى تسلم السلطة… "

وقد وجد منظرو ومخططو البيت الأبيض ضالتهم بالمقاس المناسب تماما لمطالبهم. فقد جاء في كتاب " مع عبد الناصر" لمؤلفه " أمين هويدي"، وزير دفاع ومدير مخابرات نظام عبد الناصر في أتعس فتراته، بالصفحة 52 حيث قال عبد الناصر في المحاضر الرسمية لمباحثات الوحدة الثلاثية بين القاهرة ودمشق وبغداد في إبريل - نيسان 1963 عن السلطة في دولة الاتحاد ما نصه " أنا اعتبر عملية فصل السلطات خدعة كبرى لأنه في الحقيقة ما فيش حاجة اسمها فصل السلطات لان اللي عنده اغلبيه في البرلمان هوه اللي بياخد السلطة التنفيذية والتشريعية. إذن القيادة السياسية اللي عندها الأغلبية يبقي في أيدها حاجتين: السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية. وإذا أصبح في أيدها السلطة التشريعية أصبح بالتالي في أيدها السلطة القضائية لان السلطة القضائية خاضعة للسلطة التشريعية مهما قالوا عنها مستقلة. وإن الكلام اللي طلع في فرنسا أيام مونتسيكو عن فصل السلطات كلام نظري… "

مثل هذا الهراء الصادر عن زعيم لا يقل سلطوية وشهوة للمنصب عن صدام حسين والمتفق تماما مع توجهات اللعبة السياسية الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية لا يختلف مطلقا عن خليفة إسلامي أو سلطان مملوكي باتت صورته في المخيال الشرقي مترافقة مع اقترانه حاكما بالقرآن كمصدر للتشريع ويلازمه كظله مسرور السياف للتنفيذ بعد حكم القضاء بكونه أولى أمر. فهو المشرع والقاضي والمنفذ طبقا لمبدأ الجمع بين السلطات الذي بحثت واشنطن عنه في ركام السياسيين في الشرق العربي الثقافة والإسلامي الدين. مثل هذا الحاكم كان هو المحبب إلى ساسة الولايات المتحدة الأمريكية وهو ما يلقيه علينا تراث المنطقة المتخلف من عصور غابرة للمسلمين وللمدرسة الأصولية والداعين للخلافة الإسلامية وأصحاب نظريات العروبة. من تلك الزاوية تبدو فكرة القومية العروبية أو الحكم الإسلامي كوجهين لعملة واحدة جلية واضحة، وجدت فيه الولايات المتحدة ضالتها. فالحكم الديني – الإسلامي على وجه الخصوص – بكل سلبياته يترعرع في ظل العروبة، وكلما تعرب أهل البلاد كلما باتت الفاشية وحكم الدين اقرب إلى أعناقهم. هكذا صمت الأذن وعميت الأبصار ولم ير أحد كيف أن الإسلاميين يقتلون وشيوخ الإسلام يقولون بسماحة الدين الحنيف. وكيف أن القوميين ينفذون ولا مراجعة أو محاسبة لأخطائهم لجمعهم المطلق بين السلطات. بينما إسرائيل التي في قلب الأمة العربية جغرافيا ودينيا تعج بالانتخاب وتبدل الحكام وفي نفس الوقت تحقق المعجزات. وهو ما يطرح سؤالا قديما لم نجد إجابة عنه قديما: من هي ربيبة الاستعمار حقيقية، إسرائيل أم النظم العربية؟

فالمشكلة ليست عراقية فقط بل هي شرق أوسطية فجميع دول المنطقة مهددة دون استثناء لأنها وبدون استثناء تحوي فكرا فاشيا، عروبيا قوميا كان أم إسلاميا أصوليا، مع أن الجميع لم يكفوا الحديث عن الحاجة إلى الديموقراطية والي انتخابات حرة تضم كل التيارات السياسية. فمن نصدق، صوت الداخل أم صوت الخارج؟.

فالجنون المؤدي للعجز والشلل العقلي والفكري وليس فقط السياسي لثقافة وفكر الشرق الأوسط الفاشل تجلت فيما سمي بالصحوة الإسلامية والتي لم تنبت سوى عقول تسعي لضرب مبدأ المواطنة لصالح العقيدة الغيبية، أي ضرب الحد الأدنى المطلوب لممارسة الديموقراطية في دورة جديدة لجمع السلطات، جعلت البعض يدرك الحاجة إلى تجديد الخطاب الديني، ثم انتقل الأمر إلى الإصلاح عندما لم يتقدم أحد مقترحا كيفية التجديد. وفكرة الإصلاح التي لم تجد أيضا من يصلح أدت إلى فكرة التغيير. بفشل الدعوتين، التجديد والإصلاح، باتت مسألة التغيير الشامل قضية أوروبية وأمريكية وعالمية. وهكذا بدا العالم العربي الإسلامي صاحب الرسالة الخالدة رجل العالم المريض كالدولة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى مضافا إليها جنون الإرهاب الإسلامي. فالانتخابات العراقية هزمت العرب عامة وأهل السنة خاصة. وهزمت الاحتلال الأمريكي أيضا لأنها قطعت الطريق على المطلب الأمريكي بقيام نظام ديموقراطي وحققت ما تتمناه الشعوب تحت نير النظم القومية والإسلامية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق