الاثنين، 27 أبريل 2009

كارثة الفكر الإسلامي طوال التاريخ

في مارس 2009 بثت محطات التلفزيون الباكستانية مشاهد لرجال من حركة طالبان الباكستانية وهم يقومون بجلد امرأة اتهمت بارتكاب جريمة الزنا ورفض كل من مفتي باكستان ورئيس الجماعة الإسلامية المنتخب حديثاً منور حسن التعليق على المسألة، وهو امر طبيعي فهل يناقض رجال الدين احكام شريعة الاسلام؟ وبرر كل منهما هذا التحفظ بأن المعلومات حول الموضوع كانت شحيحة. وقال منور حسن إنه لا يعلق لمجرد مشاهدة شريط فيديو، وثنى بالقول بأن إثارة مثل هذه القضايا الثانوية يجب الإعراض عنه لصالح التركيز على التدخل الامريكي في باكستان بدعوى مكافحة الإرهاب. من جانب آخر فإن المنظمات الحقوقية قالت إن ما يحدث ردة إلى عصور البربرية.
الملفت في هذا الجدل هو أن أيا من هذه الأطراف لم يثر قضية الشرعية في هذه المسألة، وما هو مصدر سلطة الجهة التي ادعت أنها تنفذ أحكام الشريعة؟ وهل يجوز لأي جهة كانت، وأي جماعة أن تعلن نفسها جهة مخولة تطبيق أحكام الشريعة في منطقة ما بدون الرجوع إلى أي مرجعية تمثل الأمة؟ فالأمر لا يتعلق بتفاصيل العملية، وما إذا كانت كما قال بعض العلماء تتعلق بحضور قاضٍ أو بقيام رجال بالإمساك بامرأة وضربها علناً أمام جمهور رجالي، وإنما بأصل العملية وأحقية الجهات التي نصبت نفسها قيادة دينية وسلطة قضائية وشرطة تنفيذ بدون مرجعية.
وليست هذه هي المرة الأولى في التاريخ الإسلامي القديم والحديث التي تقوم فيها مجموعة من الخوارج على إجماع الأمة بتنصيب نفسها حكومة إسلامية شرعية تجعل نفسها ليس فقط حكماً على من يقع في قبضتها من سيئي الحظ، بل على الأمة بكاملها. فقد كان الخوارج من قبل يكفرون سواد الأمة، ويطبقون حد الردة علي كل مسلم يقع في قبضتهم. نفس الأمر قامت به الجماعات الإسلامية المحاربة في مصر في السبعينات ثم في التسعينات، حيث كان أنصاف المتعلمين في هذه الجماعات يصدرون الفتاوى المبررة للقتل والنهب ويشاركون في تنفيذها. وتكرر الأمر في جبال الجزائر في التسعينات وحالياً في ما يسمى بتنظيم القاعدة في المغرب العربي ودولة العراق الإسلامية وغير ذلك من الكيانات التي نصبت نفسها سلطاناً ينوب عن السماء ويقوم مقام الأمة الخارجة في نظرهم عن الشرعية. وليس حركة طالبان إلا حلقة جديدة من حلقات هذا المسلسل.
قيام حركة طالبان الباكستانية على غرار سلفها وحليفتها طالبان أفغانستان وتمدد نفوذها له دلالات عميقة وهامة ذات علاقة بحاضر الدولة الباكستانية ومستقبلها، وأيضاً بحال الإسلام والأمة الإسلامية ومستقبلها. فعندما قامت طالبان أفغانستان جاءت نشأتها في ساحة تتنازعها حركات الجهاد المسلحة في جو شهد فراغاً سياسياً وغياب شرعية مجمع عليها. وعليه فلم تكن قضية الشرعية مثارة في ساحة كانت الشرعية فيها تنتزع من فوهة البندقية. بل بالعكس وجدت الحركة سنداً شعبياً لأنها وجدت دعما من المملكة العربية السعودية باعتبارها الدولة المفوضه بالحديث عن الجلد والرجم وبتر الاطراف وعقاب المرأة تحت مسمي الشريعة الغراء. ولكن الأمر يختلف في باكستان التي توجد فيها سلطة مستقرة وحكومة منتخبة وتملك جيشاً قوياً له ترسانة نووية. فكيف تقوم فئة أياً كانت بتنصيب نفسها سلطة مسلحة تستولي على الأرض وتنفذ الأحكام في ظل أوضاع كهذه؟
يضاف إلى ذلك أن باكستان تعتبر أيضاً موطن إحدى الحركات الإسلامية الحديثة الرائدة، منذ أن أنشأ فيها (أو في الهند قبل تقسيمها إذا شئنا الدقة) السيد أبو الأعلى المودودي الجماعة الإسلامية في عام 1941. وقد قدمت الجماعة الإسلامية تحت قيادة المودودي مساهمات مقدرة في الفكر الإسلامي الحديث والممارسة السياسية، وتأثرت بها الحركات الإسلامية الأخرى ونهلت من معينها، خاصة حركة الإخوان المسلمين في مصر (الجناح المحيط بسيد قطب). وهناك الكثير مما يستحق الانتقاد في فكر الجماعة الإسلامية وممارساتها، حيث وصفت بالغلو حيناً وبالجمود والتزمت أحياناً، وقد تجاوز الزمن على كل حال كثيرا من أطروحاتها. ولكن فكر الجماعة الإسلامية على علاته متقدم بسنوات ضوئية على الفكر الطالباني المهووس بالمرأة ومحاصرتها وإلغائها، حتى من دور العبادة وأماكن العلم.
فالحركات الإسلامية الحديثة متهمة بالظلامية والتخلف والسعي إلى إعادة المجتمعات الإسلامية إلى العصور الوسطى فكراً وممارسة. وهناك اتهامات مماثلة لنظم الحكم التي تستلهم الإسلام، خاصة في إيران والسعودية. وهي اتهامات علي جانب كبير من الصحة. فالنظام السعودي نشأ من تراث واحدة من آخر حركات ما قبل الحداثة الإحيائية، وأسس في مجتمع قبلي بدوي لم تكد يد الحداثة تمسه. أما النظام الإيراني فإنه جاء في بلد قطع شوطاً كبيراً في التحديث، ولكنه جاء من داخل الحوزة العلمية التي تشبه مدارس طالبان في كونها امتدادا لتراث ما قبل الحداثة، وهيمن عليه علماء تلك الحقبة وتفكيرها.
ولكن بالرغم من ذلك فإن كلا من النظامين السعودي والإيراني وبشكل انتهازي تعلم من الحداثة وأخذ منها الكثير لدعم حمه للبلاد والعباد. فالسعودية شهدت تقدماً كبيراً في مجال التحديث الامني وفي مجالات البنية التحتية. إيران أيضاً شهدت تقدماً تقنياً في مجالات عدة (خاصة التسلح) واجتماعياً في مشاركة المرأة في الحياة العامة، وسياسياً في تبني المؤسسات ذات الطابع الديمقراطي من برلمان ونظام انتخابي وغير ذلك. نعم لا يزال في كل من النظامين قصور كبير وتخلف في نواح كثيرة، ولكن كلا منهما يعايش عصره ويأخذ بكثير من مزاياه لكنه يظل علي تبنيه البربريات في قانون العقوبات تحت مسمي الشريعة.
أما الحركات الطالبانية بشقيها الباكستاني والأفغاني فتسيطر عليها طائفة من الأميين والجهال ليس فقط بأمور الدنيا، بل بكثير من أمور الدين. وكثير من قادتها يعلون تراثهم القبلي الجاهلي المعادي للمرأة باعتبار ان أحكام الشريعة تتفق وبدائيتهم. ولا شك أن حركة طالبان لو استمرت في حكم أفغانستان كانت ستتحول (ربما بعد عقود) إلى نموذج يشبه النموذج السعودي، وربما الإيراني (بعد قرون)، ولكن السؤال هو ما هو عدد الضحايا الذين سيدفعون ثمن هذه الفجوة، علماً بأنه لا النموذج السعودي ولا الإيراني بصورتهما الحالية يقتربان من المثال الإسلامي.
لقد شهدنا في تطور الحركات المشابهة في مصر والجزائر إعلان التوبة والرجوع عن الممارسات التي اعترفت بخطئها، ولكن بعد أن قتلت ودمرت وأساءت إلى الإسلام. وقبل ذلك تبعت هذه الحركات طريق أسلافها الخوارج في الانشقاقات والاقتتال الداخلي. فمن الطبيعي في هذه الحركات التي تنصب نفسها حكماً على الأمة ونائباً عنها أن يعتبر كل فرد فيها أنه حاكم بأمره. وهكذا يقود أقل خلاف إلى تكفير أفراد هذه الحركات بعضها بعضاً. بل إن الحركة الإسلامية المقاتلة في الجزائر أعدمت قادتها أكثر من مرة بتبريرات مضحكة مبكية.
هناك مسؤولية أخلاقية دينية أمام الأمة وعلمائها ومفكريها ألا يسمحوا للجهال بأن يأخذوا الأمة رهينة لجهالاتهم وضلالاتهم. والموقف المتخاذل لقيادات الحركة الإسلامية في باكستان وخارجها تجاه ما يقع في وادي سوات باسم الشريعة يعبر عن خلل كبير في الفكر الإسلامي الحديث، حيث أصبح من السهل ابتزاز العلماء والمفكرين بمجرد رفع شعار الشريعة الإسلامية مهما كان الفهم للشريعة وتطبيقها قاصراً. ومن أبجديات الفهم الإسلامي هو أن النظام الإسلامي كل متكامل، وأن من يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض هم بحسب القرآن 'الكافرون حقا'.
وقد كان كثير ممن يسمون أنفسهم قادة المجاهدين في أفغانستان يمارسون الشذوذ الجنسي جهاراً ويغتصبون الأطفال، ويمارسون النهب والقتل، ثم يطبقون بالعنف اجتهادات قاصرة حول المرأة أو جزئيات أخرى. وبالمثل نجد أن غاية ما جادت به قريحة طالبان باكستان من فهم للإسلام هو هدم مدارس الفتيات وفرض الجهل على النساء، حيث لم يفتح الله عليهم ببديل بناء، مثل استخدام هذه المباني لغرض آخر، أو تقديم منهج تعليمي بديل. ذلك إنه ليس لديهم علم بديل، ولا بضاعة يسوقونها سوى الجهل والتجهيل.
الذي سيحدث لو استمرت سيطرة هذه الفئات على وادي سوات وما حوله هو أن غالبية سكان تلك المناطق سيهجرونها إلى أمكنة أخرى، وستتحول مناطق طالبان إلى خرائب ينعق فيها البوم والجهال من رجال القبائل. صحيح أن باكستان تعاني من فساد واستقطاب سياسي، كما أن الحرب الأمريكية علي الارهاب ستزيد من الدعم الشعبي لطالبان والحركات الإسلامية المتشددة. ولكن أيا من هذا لا يجب أن يكون مبرراً للتواطؤ في الإساءة إلى الإسلام باكثر مما هو قائم وموروث.
إن الفكر الإسلامي الحديث حول الحكم ما يزال يعاني من قصور أساسي وتخلف كبير في معظم نواحيه، ولكن القصور في الفكر التقليدي عموماً، وتجلياته التي أشرنا إليها (بما في ذلك التجارب السعودية والإيرانية) هو أنها تتعامى عن واقع الحداثة ومعارفها حتى تصطدم بها مثل سفينة تبحر في الليل البهيم بغير هدى فتواجه الكارثة أو تحول مسارها مئة وثمانين درجة. ولهذا نجد هذه التركيبات تتجه من تطرف إلى آخر، فهي تتطرف حيناً في التعصب لجزئيات مبتورة عن سياقها، ثم ما تلبث حين تصصدم بالواقع أن تتطرف في الاتجاه الآخر، فتبالغ في الخضوع للأجانب والتنكر لأبسط قواعد الدين.
ما يجري في باكستان ليس إذن تحديا لأهل الباكستان وحكوماتهم المتضعضعة الفاسدة، وإنما أيضاً للعالم الإسلامي ككل. فالأمر لا يتعلق فقط بالصراع الدموي حول بقعة في أطراف باكستان، ولماذا يصمت أهل الرأي والعلماء عن هذا التشويه للدين والعدوان على فتيات الأمة ونسائها بغير وجه حق، فهل العدوان لا يكون عدواناً إلا عندما يجترحه الأمريكان كما قال زعيم الجماعة الإسلامية، أم أن العدوان الأكبر هو الافتراء علي البشر بغير سلطان مبين؟

الإعلام العربي في عصر الجاهلية

الإعلام العربي من عصر الجاهلية إلى جاهلية ما بعد الإسلام: ضرورة ترسيخ قيم الحرية والحداثة
إحسان طالب
لا يمكن لمتابع أيا ً كانت صفته إلا ملاحظة التقدم الهائل الذي طرأ على الإعلام العربي في العقد الأخير حيث زادت الصحف و الجرائد بشكل كبير و ملحوظ إلى جانب تفاقم عدد الفضائيات و لعل أدنى مثال على ذلك هو العراق حيث تضاعف عدد الصحف و المجلات في مئات المرات. وهذه ظاهرة إيجابية رغم ما يعتريها من فوضى مؤقتة ستزول بالتمرس و اكتساب الخبرات.

في تقديري حتى يكون الإعلام العربي فاعلا ً و مؤثرا ً في عملية القضاء على الاستبداد و الفساد و التخلف و الجهل و الإسهام في التنمية البشرية و الاقتصادية يفترض في الإعلاميين التحلي بسلاح المعرفة و المعلومات في عصر غدت فيه المعرفة متاحة و ميسرة و المعلومات في متناول اليد ترجو من يتناولها و يصل إليها بقليل من الجهد و البحث السريع أحيانا ً و المتأني أحيانا ً أخرى فثورة الاتصالات التي نعيشها اليوم تلقينا في بحر من الأبحاث و الدراسات و الإحصائيات و الفرضيات و النظريات توفر لنا كل ما ينبغي الحصول عليه من أجل الوصول إلى إعلام حضاري و متمكن. كما يفترض بنا التحلي بالجرأة و الشجاعة لنقتحم حصون الفساد و قلاع الاستبداد بالنقد البناء و كشف العيوب و الجرائم والأخطاء، والانطلاق نحو حرية الرأي والتركيز على دور الفرد بإمكانياته الخاصة وعقله وعلمه المجرد في الوصول إلى المعرفة.

هنا نتساءل هل هناك خصوصية للإعلام العربي غير كونه ناطق بالعربية؟ وهل يتحلى إعلامنا برسالة أو رسائل خاصة تميزه عن غيره من الإعلام الناطق باللغات الحية الأخرى؟ ربما كانت الميزة الأولى للإعلام العربي سيطرة أجهزة السلطة عليه إما مباشرة أو توجيها ً وتمويلا ً، وبذلك يتحلى الإعلام بمهمة رئيسية هي دعم الأنظمة الحاكمة القائمة وتبرير بقائها في السلطة والتستر على عيوبها وأخطائها، وهذا لا يعني وجود إعلام وصحافة عربية حرة فهو موجود ولكن في حدود ضيقة. وفي عصرنا الحديث الذي غدا فيه العالم مكشوفا ً والخبر متاحا ً وغدت الأرض قرية صغيرة يعرف ما يجري فيها وكل أخبارها الصغار والكبار، وعليه كان لزاما ً زيادة هامش الحرية والنقد بما يعكس صورة أقل مأساوية وأكثر واقعية للإعلام الذي ما زال يحبو في دروب الحرية والتطور.

ربما يقع على عاتق الإعلاميين البحث عن الحقيقة وإظهارها وعدم التستر عليها حماية للفساد والاستبداد وبذلك يؤدي الإعلام دورا ً من أهم أدواره التي يعد الدور الثقافي التنويري الهام لها حيويا ً وضروريا ً فالشعوب العربية عموما ً بحاجة ماسة إلى إعلام نقدي مثقف ومضطلع قادر على النهوض بالعقل العربي إلى حيث البحث ومن ثم الوصول إلى المعرفة متجردا ً من قيود حاصرته زمنا ً طويلا ً وما زالت.

يركز الإعلام العربي عموما ً على الثقافة الدينية ويفسح لها مجالات واسعة ورئيسية وذلك لاستقطاب القراء والمتصفحين الذين تتمحور اهتماماتهم في الغالب في معرفة الموروث وعلاقته بالحاضر، ونتيجة لضمور واضمحلال التوجهات الثقافية الأخرى لدى شرائح عديدة من الشعوب العربية، غدا الاهتمام والعناية بالمناحي الثقافية المرتبطة بالأدب والفكر والفن محدودا ً وبمراجعة بسيطة لنوعية الكتب المطبوعة والمقروءة من خلال معارض الكتاب المنتشرة في عواصم المعرفة العربية نلاحظ بوضوح احتلال كتب التراث وما دار في فلكها في المراتب الأولى طباعة وشراء وقراءة ومن جانب آخر نلاحظ أن رواد المواقع الالكترونية الدينية يحققون أرقاما ً عالية جدا ً بالمقارنة مع المواقع ذات التوجهات الثقافية المتنوعة والليبرالية. ومن هنا نستطيع الربط بين توجهات الإعلام وأمزجة المتلقين، فالوسائل الإعلامية عموما ً تسعى لاستقطاب أكبر عدد ممكن من المتابعين من أجل وصولها إلى تلك الغاية تقدم لهم ما يودون الإطلاع عليه مما يوقعها في مأزق يمنعها من الخروج على رغبات وتوجهات القراء والمتابعين. وفي هذه النقطة بالذات ينبغي على الإعلاميين تحقيق التوازن بين ما هو مطلوب وبين ما ينبغي الوصول إليه.

إعلام عصر ما بعد الإسلام:
لعل أقرب ما يميز الإعلام العربي ارتباطه بثلاثة أنواع الأول الإعلام الرسمي وهو إعلام الأنظمة ومهمته منصبة على تدعيم النظام القائم ومدح الزعيم القائد وإبراز دوره التاريخي الذي يرنو إليه العالم أجمع والفخر بما ينتسب إليه هذا الزعيم الأوحد وهجاء الآخرين المصنفين في خانة الأعداء ورثاء أسلاف الزعيم والوقوف على أطلال الماضي والتباكي على اندثاره وضياعه.
الثاني الإعلام شبه الرسمي ويتماشى بأغراضه وتوجهاته مع الأول ويضيف عليها نقد قشري للواقع الذي تعانيه الشعوب ويحيل أسباب الفساد والاستبداد والتخلف والجهل والبطالة والتعصب والتطرف إلى الأعداء الخارجيين ويؤكد أن كل العيوب والنقائص إنما هي ناجمة عن البعد عن توجهات وآراء وقرارات الزعيم الأعظم.

والثالث الإعلام الخاص وهو في الأنظمة الشمولية إعلام رديء يحاول التستر بعباءة معارضة النظام وينتقد أشخاصا ً ومؤسسات وأفراد بحدود معينة لا تقارب الخطوط المحرمة من حيث المستويات والانتماءات، ويتلقى التعليمات والتوجيهات من رؤوس الأجهزة الأمنية بالتركيز نحو نقاط محددة للتأثير على العامة وتسيير القطيع المتلقي باتجاه مرعى ً بعينه، ويبرع هذا الإعلام في إظهار عجز الحكومات المعينة من قبل السلطة الحاكمة عن الوصول إلى الأهداف والغايات النبيلة التي تبنتها السلطة وغالبا ً ما يكون ثوريا ً أكثر من الثورة ذاتها وملكيا ً أكثر من الملك ويبدي تشددا ً وتعصبا ً وانغلاقا ً في أيديولوجياته وعقائده.

هذه الصورة للإعلام العربي لا تغادر تلك التي كانت معروفة ومتاحة عن الإعلام في العصر الجاهلي. وللبيان أقول: يعد الشعر في العصر الجاهلي الوسيلة الأهم والأبرز في الإفصاح عن طبيعة المرحلة التاريخية للعرب ما قبل البعثة حيث يشكل الشعراء منابر الإعلام والتوجيه في ذلك الوقت وبتلقائية شديدة كانت أهداف الشعر الجاهلي – إعلام ذلك العصر – محددة الأهداف وألأغراض والغايات بالفخر والمديح للشاعر وقبيلته وعشيرته وبالهجاء والذم والقدح للآخرين بالإضافة إلى الرثاء لمن غادر من أعلام القبيلة والعشيرة ونهج الشعر الجاهلي – إعلام عصره – عادة البكاء على الأطلال خارج مضارب القبيلة وما تبقى من آثار العشيرة. وهنا ببساطة – ربما مبالغ فيها – نلحظ التشابه بين إعلام العصر الجاهلي وبين الإعلام العربي الحديث الذي أصنفه بإعلام عصر ما بعد الإسلام.

فالعصر الإسلامي بإيجابياته وسلبياته تجاوزه الإعلام العربي الحديث وأصبحنا بعد أو فوق العصر الإسلامي و ذلك بالابتعاد عن القيم الإسلامية التي جاءت الرسالة في بدايتها منادية بها.

فالحرية و التسامح و المساواة و التكافل بين البشر كافة دون تمييز بين لون أو عرق أو دين كانت أهم أسباب سرعة انتشار و تقبل الدين الجديد بين أهله و خارج حدوده بين العرب و الأعاجم و مازالت تلك القيم المحرك الأهم في استقطاب أناس جدد ينضمون إلى قافلة المسلمين، و هذا لا يعني أن تلك القيم هي السبب الوحيد لكنها بدون ريب الوجه المضيء و الصفحة الإيجابية التي تتلى للتبشير بالأسلمة.

الإعلام العربي الحديث تجاوز تلك المبادئ السامية و القيم الإنسانية و حشر ذاته في مضامين و أغراض الإعلام الجاهلي القديم – الشعر – لذلك نعتبره إعلام ما بعد العصر الإسلامي. و للإنصاف فإن ذلك الوصف لا ينطبق على الكل إلا أنه يلتصق بالغالبية على الأرجح. و للإنصاف أيضا ً لابد من التنبيه إلى أن الشعر الجاهلي حقق إنجازا ً حضاريا ً ما زال قائما ً إلى وقتنا الحالي من خلال إبحاره في غمار الغزل و الوصف و تحليقه في فضاءات كادت تصل حد الإعجاز.

فالشعر الجاهلي أنجز تطورا ً و إبداعا ً شكليا ً في غاية الروعة و الجمال ما زالت تداعيات آثاره ماثلة و قادرة على تحفيز القرائح نحو الإبداع.

نجد الإعلام العربي في عصر ما بعد الإسلام محفزا ً فقط للتعصب و العدائية و التطرف و إقصاء الآخر و التعالي على الحضارات الأخرى و ربما كان تناوله لقضية الرسوم المسيئة للنبي (ص) دليلا ً و مؤشرا ً يدعم ما ذهبنا إليه ففي تاريخ 3/2/2006 عقدت قناة الجزيرة ندوة عن تلك الرسوم كانت الغلبة فيها كالعادة للتشدد و في 4/2/2006 تم إحراق عدد من السفارات الأوروبية في دمشق و بعدها في بيروت. لا أقول أن السبب الوحيد للقيام بمثل ذلك العمل المهين هو قناة الجزيرة فقط و لكنها ساهمت بشكل فعال في تحريض الناس و الرعاع على مثل ذلك الفعل كما ساهمت الصحف و القنوات الأخرى في ذلك إلى جانب خطب الجمعة التي سبقت يوم الحادث حتى الوصول إلى تلك النتيجة و من ثمة الانتقال بالمجتمعات العربية إلى عصر ما بعد الإسلام تحت راية و هوس التشدد الديني.
m.h.taleb@mail.sy

العروبة ماتت بالسكتة القومية


نعم، حلمنا وتوهمنا وخدعنا.. وارتكبت أكبر الأخطاء دون التعلم من التجارب طريق الخلاص من التهريج! ثلاثون سنة باسم القومية العربية وثلاثون سنة باسم ما أسمى بالصحوة الدينية! لنتأمل حجم الانقسامات، وعوامل التقهقر، وانكفاء الحياة.. لقد توهم الناس كل الفذلكات صراحة، والبطولات أمجادا، والأكاذيب حقائق ، سألت أحد أبرز القادة القوميين وهو أكرم الحورانى عندما التقيت به ببيته فى الشميسانى بالعاصمة الأردنية، مساء يوم 7 / 11 / ,1996 قائلاً: كيف كنتم ستحكمون إن حققتم الوحدة العربية
قال: من خلال قيادتين قومية وقطرية، قلت له: وهل سيكون ذلك من دون انتخابات واستفتاءات للناس
قال متسائلاً: أتعتقد أن الأحزاب القومية تؤمن بالديمقراطية! قلت له: ولماذا أوهمتم الملايين بالحرية كمبدأ وهدف معاً
زاغ بصره قليلاً، والتفت يقول: إن تجاربنا القومية كلها مستلة من تجربة الحزب الوطنى الاشتراكى فى ألمانيا النازية! وأرجو أن تسجل هذا على.. فتجاربنا القومية فى الأربعينيات قد تأثرت بتجربتى ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية! قلت: وماذا تقول فى الرئيس عبد الناصر والناصرية
قال: نحن سبقناه، وجاء من بعدنا فركب الموجة، وغطى علينا لانسياق الجماهير وراءه، وكان بيننا وبينه ما صنع الحداد! (انتهى كلامه).
الانهزامية بطولة! كان من المحتم أن تنهزم القومية العربية، ثقافة وأيديولوجية كونها عبرت عن مصالح قوى حزبية، أو سلطات انقلابية، وحكومات عسكرية لا تعبر عن أمنيات مجتمع، وتنمية فكر واستنارة عقل! وعلينا أن نعلم أن «نزعة العروبة» قد استلبتها «الظاهرة القومية»، وتحدثت باسمها لزمن طويل! اليوم، كثيراً ما تشتم «العروبة» ظلماً وعدوانا، بسبب كراهية الموجات القديمة والجديدة للقومية العربية والفكر القومى العربى.. ولا يزال القوميون حتى يومنا هذا يدافعون دفاعاً مستميتاً عن تاريخهم، إزاء استثناء ثلة منهم، راجعوا أنفسهم، فوجدوا أن مجتمعاتنا عاشت مخدوعة خديعة كبرى بفعل الوازع القومى الذى لا وجود له فى مجتمعات لم تكن تعرف إلا ما يجمعها (عروبيا).. ولكن مع وجود خصوصيات يختص بها كل مجتمع عن الآخر. إن من المضحكات القومية أن تغدو كل هزائمها بطولات عظيمة!
معنى العروبة إن «العروبة» هوية ثقافية قديمة جداً، وأنها مجموعة قيم يتصف بها أبناؤها، أو من يعتز بالانتماء إليها، وسلسلة أساليب حياة تتوارثها الأجيال كابرا عن كابر، وأنها مجموعة من بقايا القيم والمواريث كالمروءة والسماحة، وهى الأسماء والفولكلوريات، وهى أساليب الحياة الثقافية المتوارثة بصالحها وطالحها، وبكل سوالبها وإيجابياتها سواء عند الحضر أو البدو.. وهى البيئة والصحراء والشعر واللغة.. هى الموسيقى والطرب وهى التى عبر من خلالها أصحابها فى قلب العالم القديم، وهى النسق الاجتماعى والثقافى لتراث حضارى بكل ألوانه وعناصره وتاريخه، أما القومية العربية، فهى ظاهرة أيديولوجية حديثة، تطورت عن «فكرة» سياسية لا يزيد عمرها على قرن واحد عربياً، وتبلورت متأثرة بالفكرة القومية التى نضجت خلال قرنين من الزمن أوروبيا.. ولقد وجدت القومية العربية لها عناصرها فى ظروف دولية معقدة، وتبلورت هى نفسها فى ظروف تاريخية صعبة، وتأثر أصحابها بالنزعات القومية الأخرى القريبة والبعيدة وبالأخص الأوروبية.. وإذا كانت قد نجحت فى أوروبا بتشكيل دول وممالك اتحادية كونها عبرت عن حقائق وواقع، فإن القومية العربية فشلت فى أهم مشروع نادت به هو «الوحدة العربية» كونه لم يعبر عن واقع أبداً!!
جعلوا الأوهام حقائق ومن أبرز مشاكل القومية العربية أنها احتكرت «العروبة» منذ نشأتها، وكانت ولا تزال تتحدث باسمها فى واحد من أخطر جوانبها المخفية عن الوعى والتفكير.. أما خطاياها الأخرى، فحدث عنها ولا حرج، ومنها «أوهامها» التى تعتبرها حقائق أساسية ومنها غلوها وتعصبها وتشددها ضد كل من لم يؤمن بها مهما بلغت درجة عروبته من العنفوان، ففقدت أيديولوجيتها مصداقيتها حتى عند العرب أنفسهم! هذا هو الفرق الحقيقى بين مفهومين اثنين لدى العرب المحدثين ومن يشاركهم حياتهم، وهم الذين لم يعلموا، حتى الآن، أن القومية العربية قد استلبت العروبة نفسها، وجردتها من كل المعانى بعد أن استغلت اسمها استغلالا خاطئاً.
كنت أتمنى عليهم! واليوم، لم ينفع نداء العقل ومطالبة كل المستنيرين للقوميين، أن يجددوا مضامين خطابهم، ويراجعوا مواقفهم، ويعترفوا بالأخطاء التى جنوها بحق أجيالهم.. كنت أتمنى على الثقافة القومية العربية أن تنتقد نفسها نقداً صارماً.. كيف أنها خدعت الملايين بتحقيق شعارات لا تستقيم والواقع! كنت أتمنى على مثقفيها أن يتأملوا كل الأهداف التى جمعتهم من دون تحقيق أى واحد منها! كنت أتمنى أن يعترف القوميون بالأخطاء الجسيمة التى ارتكبوها فى تهميش القوميات والأقليات الأخرى، بتفضيلهم العرب على شعوب أخرى.. والبقاء، وهم يسبحون ليل نهار بالمفاخر والأمجاد! كنت أتمنى أن يقرأ القوميون التاريخ بدقة متناهية ليجدوا أن مجتمعاتنا العربية لم تجمعها أية أهداف سياسية محددة، بقدر ما جمعتها أهداف حضارية كبرى! كنت أتمنى ألا تسرق العروبة بكل معانيها، لتستلب باسم القومية، إن العروبة، ثقافة مشتركة، ولغة واسعة، لها امتداد كبير من الزمن الحضارى! كنت أتمنى أن تحترم رموزنا، بدلاً من تبقى مقدسة فى الذات! كنت أتمنى أن من تعاد مراجعة التاريخ القريب لكى يحاكم المهزومون والمهرجون وكل الطغاة، ويخرج كل أصحاب الزعامة والفخامة والرئاسة من قاعات التبجيل فى مؤتمرات القمة إلى حيث مساءلتهم، عما اقترفوه بحق الناس.. وهل كانت خطاباتهم وأقوالهم وتصريحاتهم تعبر بصدق عن مبادئ، أم كانت لمآرب أخرى

من احتكر الأخر
كثيراً ما قورنت القومية العربية فى مدارسنا التى تعلمنا فيها بقوميات أوروبا بمنتهى الغباء والسذاجة! وكأننا بيئة مشابهة وتاريخ متجانس، وإذا كان القوميون قد احتكروا العروبة لأنفسهم، فهل ليست لغيرهم عروبتهم
فالقومية - هنا - تيار سياسى فقط، ولا يمكنها أن تحتكر العروبة كلها، وسواء كانت العروبة على صواب أم خطأ، فينبغى أن يدرك الجميع أن عروبتنا التاريخية القديمة لا علاقة لها بالقومية العربية، مع احترامنا للظاهرة القومية وما قدمته لتاريخ البشرية، لقد أضرت القومية العربية بثقافتنا، وساهمت فى تقسيم مجتمعاتنا على مدى قرابة ستين سنة، وبالرغم من كل الأدبيات التى تتضمن أفكاراً مثالية، ورؤى رومانسية، وخطابات ثورية، ولكن التطبيق كان قد جر إلى الخراب.
وأخيراً.. هل من رؤية جديدة
إن العروبة التى توارثتها الأجيال عبر التاريخ، ليست مجموعة أحزاب قومية كالتى عرفناها على الساحة، قد استلت أفكارها، ونصوص بياناتها، وبنود أنظمتها الداخلية، ومسرد خطابها من القوميات الأوروبية! لقد تربينا وكبرنا على أناشيد قومية، وشعارات قومية، وبيانات انقلابات قومية، وخطابات رائد القومية.. وفجأة ينتهى ذلك المد الطاغى الذى وصل الحد أيام غطرسته أن يذهب المرء إلى الجحيم إن انتقد بعض ممارسات بشعة قام بها ضباط مستهترون، أو حزبيون مناضلون، أو مصفقون ومهرجون!! لقد بات القوميون اليوم - كما يظهر - يهربون من استخدام القومية العربية، أو القوميين، أو الجماعات القومية.. ليلبسوا لباس الدين، أو يتشحوا بالعروبة، وكأن قوميتهم العربية قد أصبحت عتيقة مكسرة لا تقوى على الحياة! ولكنها مجرد سنوات ويرحل هذا الجيل الذى صفق للأحلام ليترك الساحة إلى مهرجين جدد يصفقون للأوهام ويا للأسف!
د. سيار الجميل

مأزق العقل العربي وتحديات الحاضر

من المؤكد ان العقل العربي منذ بداية عصر التخلف وحتى الآن يفرز تفكيرا جامدا ويؤكد وعيا سلبيا، ولا يعوزنا لكي نؤكد هذه المقدمة بالدلائل، فما حدث منذ بداية القرن الذي مضى والقرن الذي أهلّ وما جرى فيهما من وقائع وأحداث تثبت ذلك وتؤكده، فالعقل العربي باختصار هو عقل لا يعرف ما يريد وعاجز عن تحديد توجهاته، فهو غيبي حين الحديث عن أهدافه، مفرداته مستهلكة وقدراته الذهنية منهكة، يرفض حين يجب ان يقبل والعكس صحيح، اما الحديث عن رؤية الفرص التاريخية فهو حديث، اذا شئنا الدقة، هو حديث عن الفرص الضائعة وكيف استطعنا باجتهادات لا نحسد عليها ان ننجح في ذلك نجاحا كان لنا دائما فضل السبق فيه، ولعل سبب ذلك مرده الى ان الذاكرة العربية لا تتكئ الا على الماضي وغيبياته وأفكار المشعوذين فيه، وبعض أبيات الشعر في الفخر او الهجاء، ونصوص تراثية هي لزوم ما لا يلزم، ولذا فان العقل العربي الآن يبدو في قطيعة كاملة عن تحديات الحاضر، اما عن المستقبل وأهدافه فذلك شأن آخر لا علاقة لنا فيه، ذلك ان مجتمعنا اليوم هو أسير التخلف وما ينتجه هذا التخلف من حروب أهلية وقبلية واثنية وطائفية، وهو الى ذلك أسير الجهل والأمية حتى لنكاد نحتل الصفوف الاولى في هذا التصنيف في العالم، أضف الى ذلك سوء إدارتنا للانتاج او للتنمية، ومع هذا كله، وربما قبل هذا كله، ما أنتجناه من أنظمة حكم وحكام منهم من اصطاد الحكم بالوراثة او بالدبابات، وصادروا مواقع القرار بالتسلط الى أجل غير معلوم، وفي حين كان المطلوب من العقل العربي ان يواجه وينبه فقد بدا ان هذا العقل محاصر في ركنين، أصولية تذهب الى الغيبيات تحاكم خصومها بحدي الدين او السكين، وأنظمة تحاصر معارضيه بالاحكام العرفية، وهكذا صارت المشكلة مشكلتين أمام تجديد الحياة العربية وأمام العقل العربي الذي ظل قاصرا عن استيعاب هذا العصر فلسفة رقي ومعلومات، واعلاما يتواصل ويتصل مع مجتمعه، يتلقى ويبلغ حيث تدعو الحاجة، لذلك ومع ذلك فقد حدث في التاريخ المعاصر حالات نهضت فيها الأمة لتغيير واقعها، قاومت الاستعمار في هذا القطر او ذاك وانتزعت الاستقلال وواجهت أعظم هجمة استعمارية بعد الحرب العالمية الثانية تمثلت في اقامة دولة اسرائيل، وما زالت تواجه هذا الاحتلال بأشكال شتى، وأقامت دولة للوحدة بين مصر وسوريا بدت في حينها بأنها دولة الوعد بالتقدم وامتلاك القوة، ومع ذلك فان كل الانتفاضات المشروعة لم تستطع ان تواجه القوى المضادة لها ولم تستطع المحافظة على إنجاز الخطوات التدريجية والمتراكمة لإرساء علاقات صحية بين شعوب هذه المنطقة وأنظمتها، بل الذي حصل هو العكس تماما، فقد سقطت جميع الأقطار العربية في قبضة التخلف والعسكر، وفشل أول مشروع وحدوي عربي، اما الحديث عن اسرائيل فهو واضح ومسموع، فقد حاولنا ان نقاوم التخلف بالعنف، ولعل هذه المحاولة اذا كانت مبررة في وقت ما، فهي مميتة في وقت آخر، خصوصا اذا استعملنا العنف وأساليب البطش والارهاب في التعامل مع شعوبنا، ذلك ان المطلوب ان تتمتع تلك الشعوب بحريتها، بحقها في تنظيم أحزابها والانتساب اليها، بحرية القول والعمل، وهو نص موجود في كل دستور عربي ومشطوب ايضا من كل دستور عربي، وأعتقد انه بمثل هذه الحالة كان هناك تواطؤ ما حصل بدون اتفاق أغلب الظن ولكنه ادى الى نفس النتائج بكل تأكيد، ولقد تمثل ذلك التواطؤ بين العقل العربي الجامد والمتخلف وبين الحاكم العربي المتسلط والمتطلب، وعلى هذا فان العقل العربي الذي كان عليه ان يحلل الواقع وان ينتج أفكارا جديدة وخلاقة استقال من دوره تماما وأصبح داعية لهذا النظام او ذاك، يبرر ويبخر، ومع ان القيم هي نفسها، لكن تلك القيم استخدمت بمعان وغايات متباينة ولم يستطع ذلك العقل سوى ان ينتج مقولات غائبة عن الوعي، وهي مقولات رسخت التخلف وعممته وألغت التقدم لحساب التخلف نفسه، وهكذا وجد العقل العربي أمام حالة من حالتين: إما وعي أسباب التخلف وهو ما يرفد في خانة المستقبل، وإما تخلف الوعي وهو ما ينتجه حاضر هذه الأمة على كل صعيد، لقد وقعنا في الاشكال الذي هو مطب اجتماعي واقتصادي وسياسي في آن، وهي وقائع تدل وتؤشر على مأزق العقل العربي، فعندما يكون عقل النخب العربية غير قادر على ممارسة دوره في رسم إشارات التقدم، بل وممنوع عليه ان يمارس هذا الدور، فلا بد ان العالم العربي لسنوات كثيرة قادمة سوف يعرف الكثير من الفتن الاهلية والطائفية ناهيك بالردة الدائمة نحو السلفية بحثا عن حل مستحيل في نفق المأزق ذاته، ومع ذلك فقد تمت عدة محاولات لنقد العقل العربي وهي محاولات حددت منهجية جديدة نقدية ومتطورة تمثلت في نقد التحليلات السابقة بما فيها أهداف مستحيلة لمرحلة الخمسينات مع كل ما كانت تمتلئ به من محاولات للتقدم، ثم جددت تلك المحاولات اسلوبا جديدا وعمليا وعلميا للتعامل مع الاحداث وقرائتها، يدل عليها ما كتبه محمد عابد الجابري وجورج طرابيشي ومحمد أركون وسواهم، وهي محاولات علينا ان نلاقيها في منتصف الطريق حتى نقرر في نفس الوقت عندما نطرح السؤال الدائم معرفة ما نريد وكيف نحقق ما نريد، والسبل الى ذلك متوفرة بنسب شتى، بإمكانيات متواضعة ومتوفرة في هذه المؤسسة او تلك، والمطلوب عقول شجاعة تمتلك الرؤية والحس التاريخي لكي تتقدم بنا خطوات الى الأمام، وأيضا حاكم شجاع يمتلك حسا تاريخيا بتحديات المستقبل الذي يواجه أمتنا، قادر ان يطلق العقل العربي من أسره، بحثا ونقاشا وحوارا يفتح أمام الأمة الأبواب المغلقة ويكسر حاجز الخوف والتردد.

متى يعلنون وفاة العرب ؟


-1-
أحاول منذ الطفولة رسم بلاد
تسمى - مجازاً - بلاد العرب
تسامحني إن كسرت زجاج القمر
وتشكرني إن كتبت قصيدة حب
وتسمح لي أن أمارس فعل الهوى
ككل العصافير فوق الشجر
أحاول رسم بلاد
تعلمني أن أكون على مستوى العشق دوماً
فأفرش تحتك صيفاً عباءة حبي
وأعصر ثوبك عند هطول المطر
-2-
أحاول رسم بلاد
لها برلمان من الياسمين
وشعب رقيق من الياسمين
تنام حمائمها فوق رأسي
وتبكي مآذنها في عيوني
أحاول رسم بلاد تكون صديقة شعري
ولا تتدخل بيني وبين ظنوني
ولا يتجول فيها العساكر فوق جبيني
أحاول رسم بلاد
تكافئني إن كتبت قصيدة شعر
وتصفح عني إذا فاض نهر جنوني
-3-
أحاول رسم مدينة حب
تكون محررة من جميع العقد
فلا يذبحون الأنوثة فيها
ولا يقمعون الجسد

-4-
رحلت جنوباً .. رحلت شمالاً
ولا فائدة
فقهوة كل المقاهي ، لها نكهة واحدة
وكل النساء لهن - إذا ما تعرين - رائحة واحدة
وكل رجال القبيلة لا يمضغون الطعام
ويلتهمون النساء بثانية واحدة

-5-
أحاول منذ البدايات
أن لا أكون شبيهاً بأي أحد
رفضت الكلام المعلب دوماً
رفضت عبادة أي وثن

-6-
أحاول إحراق كل النصوص التي أرتديها
فبعض القصائد قبر
وبعض اللغات كفن وواعدت آخر أنثى
ولكنني جئت بعد مرور الزمن

-7-
أحاول أن أتبرأ من مفرداتي
ومن لعنة المبتدأ والخبر
وانفض عني غباري
وأغسل وجهي بماء المطر
أحاول من سلطة الرمل أن أستقيل
وداعاً قريش
وداعاً كليب
وداعاً مضر

-8-
أحاول رسم بلاد
تسمى - مجازاً - بلاد العرب
سريري بها ثابت
لكي أعرف الفرق بين بلاد وبين السفن
ولكنهم .. أخذوا علبة الرسم مني
ولم يسمحوا لي بتصوير وجد الوطن

-9-
أحاول منذ الطفولة
فتح فضاء من الياسمين
وأسست أول فندق حب
بتاريخ كل العرب
ليستقبل العاشقين
وألغيت كل الحروب الحروب القديمة
بين الرجال .. وبين النساء
وبين الحمام .. ومن يذبحون الحمام
وبين الرخام .. ومن يجرحون بياض
الرخام
ولكنهم .. أغلقوا فندقي
وقالوا بأن الهوى لا يليق بماضي العرب
وطهر العرب
وإرث العرب
!! فيا للعجب

-10-
أحاول أن أتصور ما هو شكل الوطن
أحاول أن أستعيد مكاني في بطن أمي
وأسبح ضد مياه الزمن
وأسرق تيناً ، ولوزاً ، وخوخاً
وأركض مثل العصافير خلف السفن
أحاول أن أتخيل جنة عدن
وكيف سأقضي الإجازة بين نهور العقيق
وبين نهور اللبن
حين أفقت .. اكتشفت هشاشة حلمي
فلا قمر في مياه الفرات
ولا قهوة في عدن

-11-
أحاول بالشعر أن أمسك المستحيل
وأزرع نخلاً
ولكنهم في بلادي ، يقصون شعر النخيل
أحاول أن أجعل الخيل أعلى صهيلاً
!! ولكن أهل المدينة يحتقرون الصهيل

-12-
أحاول - سيدتي - أن أحبك
خارج كل الطقوس
وخارج كل النصوص
وخارج كل الشرائع والأنظمة
أحاول - سيدتي - أن أحبك
في أي منفى ذهبت إليه
لأشعر - حين أضمك يوماً لصدري
بأني أضم تراب الوطن

-13-
أحاول - منذ كنت طفلاً - قراءة أي كتاب
تحدث عن أنبياء العرب
وعن حكماء العرب .. وعن شعراء العرب
فلم أر غلا قصائد تلحس رجل الخليفة
من أجل حفنة رز .. وخمسين درهم
!! فيا للعجب
ولم أر إلا قبائل ليست تفرق ما بين لحم النساء
وبين الرطب
!! فيا للعجب
ولم أر إلا جرائد تخلع أثوابها الداخلية
لأي رئيس من الغيب يأتي
وأي عقيد على جثة الشعب يمشي
وأي مراب يكدس في راحتيه الذهب
!! فيا للعجب

-14-
أنا منذ خمسين عاماً
أراقب حال العرب
وهم يرعدون ، ولا يمطرون
وهم يدخلون الحروب ، ولا يخرجون
وهم يعلكون جلود البلاغة علكاً
ولا يهضمون

-15-
أنا منذ خمسين عاماً
أحاول رسم بلاد
تسمى - مجازاً - بلاد العرب
رسمت بلون الشرايين حيناً
وحيناً رسمت بلون الغضب
وحين انتهى الرسم ، ساءلت نفسي
إذا أعلنوا ذات يوم وفاة العرب
ففي أي مقبرة يدفنون ؟
ومن سوف يبكي عليهم ؟
وليس لديهم بنات
وليس لديهم بنون
وليس هناك حزن
!! وليس هناك من يحزنون

-16-
أحاول منذ بدأت كتابة شعري
قياس المسافة بيني وبين جدودي العرب
رأيت جيوشاً .. ولا من جيوش
رأيت فتوحاً .. ولا من فتوح
وتابعت كل الحروب على شاشة التلفزة
فقتلى على شاشة التلفزة
وجرحى على شاشة التلفزة
ونصر من الله يأتي إلينا .. على شاشة التلفزة

-17-
أيا وطني جعلوك مسلسل رعب
نتابع أحداثه في المساء
فكيف نراك إذا قطعوا الكهرباء

-18-
أنا بعد خمسين عاماً
أحاول تسجيل ما قد رأيت
رأيت شعوباً تظن
بأن رجال المباحث أمر من الله
مثل الصداع .. ومثل الزكام
رأيت العروبة معروضة في مزاد الأثاث القديم
!! ولكنني .. ما رأيت العرب
نزار قباني
القاها في احتفال الجامعة العربية بمناسبة مرور خمستن عاما علي تاسيسها عام 1944

الأحد، 26 أبريل 2009

اسرائيل بين الدولة والاسطورة

علي مدي ثلاثة اشهر في العام 2008 زارت علي الترتيب كل من المستشارة الالمانية انجيلا ميركل والرئيس بوش والرئيس الفرنسي ساركوزي مقر الكنيست الاسرائيلي والقوا جميعا خطبا عصماء، واقوال تقع في منطقة العمي المعرفي في العقل العربي. تحسس ذلك العقل – علي طريقة بريل - تلك الزيارات لكنه لم يفهم ما قيل بالقدر الكافي والمماثل لهجومه عليها. فحديث الرؤساء خلط الحاضر بالماضي واستشرف المستقبل لاسرائيل وليس لمن حولها. مثلت المستشارة الالمانية ميركل الدولة صاحبة المركز المالي المسيطر في اوروبا اما بوش فيمثل القدرة العسكرية للعالم الراسمالي الصناعي واخيرا رئيس فرنسا معبرا عن الثقافة والتنوير الاوروبي والقائد للنقلة الحضارية المعرفية لعالم كله.
فالقضايا السياسية والمسائل القومية والامن لا تخضع لقواعد الفطرة كما تصورها نصوص العرب، لكن مواجهة التحديات، إذا أن هناك ما هو خطر على منطقة الشرق الاوسط، هو ما يدعونا إلى التفكير الجاد ولو لمرة اخيرة بدلا من اجترارنا الاساطير الغير قابلة للتحقق. فالخطر علينا يكمن في قصور عقلنا المستعرب وعجزه عن الفهم باكثر مما يحسب من فوائض نفطية لا يعرف مدي حجم احتياطياتها للمستقبل، لكن ذلك العقل يعرف كيف يستخدمها افسادا وتدليلا لرغباته الفطرية ايضا.
اعتبرت ميركل ان حق اسرائيل في الوجود قضية التزام دولي، وان أمن أسرائيل جزء من أمن ألمانيا، وأعربت عن رفضها للتهديدات الايرانية ومن ثم تهديدات كتلة الصمود والتصدي ومن تبعهم باحسان باسم المقاومة. كانت ميركل أول مستشارة ألمانية تلقي خطابا أمام الكنيست، وأول مستشارة تزور متحف تخليد ضحايا المحرقة النازية مجدده فكرة التعويض ليس فقط بالمال، بل بضمان أمن اسرائيل ووجودها.
فالهولوكست مشكل السياسة الالمانية في فترة النازية مع اليهود. ومع ذلك هبت جبهة الصمود والتصدي وتوابعها بشجب اعتذار المستشارة كما لو انهم يقولون نحن في انتظار مخلصنا هتلر العربي او الاسلامي لناخذ دورنا في الذبح والقتل. ولم يقل احد عن مدي التعامل العروبي الغير مسؤول والمتهور منذ العام 48 مع ما سمي بقضية العرب الاولي. لكنهم يدافعون عن قضايا الفاشية التي حكم عليها العالم بالخسران بينما المحامي العربي مصمم علي الاستئناف لاعاده الالمان الي سابق نازيتهم.
ثم جاء دور بوش فقال ما لم يجرؤ ان يقوله مالك في الخمر. فتعرض للتاريخ اليهودي تحت مظلة الهيمنة الامبريالية العربية وبادر باصلاح الامر فقال بحق اليهود الطبيعي في ان يكونوا ساده انفسهم بانفسهم وهو غمز ولمز في تاريخ اهل الذمة والولاية التي حكمت الشرق الاوسط لفترات طويلة، باعتبار ان دولة اسرائيل تمثل تحقيقا لما سطرته الاقلام في الكتب السماوية بالوعد الايراهيمي والموسوي واعتذارا من العالم عن سياسة الامبراطورية العربية الاسلامية. ممثل الآلة العسكرية الكبري في العالم هو المتحدث عن الحقوق الالهية المضمونة بالعتاد والقوه طالما ان هناك من يريد عبر العسكرة والجهاد لنشر الدين الحنيف. ربما فات بوش، لعدم المامه بالعربية، ان يقول " واعدوا لهم ما استطعتم ... " فماذا يملك الشيخ الهلالي – المصري الجنسية - صاحب فتوي لحم النساء العاري والكلاب في استراليا في تصريحه اللاحق بان المسلمين احق باستراليا من اهلها؟
عرج بوش علي موقف العالم من الديموقراطية وانب الامم المتحده علي قراراتها التي تدين اسرائيل في قضايا حقوق الانسان مقارنة بما يجري في محيطها ولم يسمهم باعتبار ان كل لبيب بالاشارة يفهم. واعتبر ان مفهوم الحرية الدينية في الغرب متناقض مع مفهومه في الشرق. فالكرامة والعدالة وعدم التمييز لها جنودها المدعومون بقوة العقل والحقيقة العقلية رغم ان تاسيس اسرائيل كان علي اساس الاسطورة والدين. الا ان تاسيس العالم الحديث باكمله يدين بالكثير لاعمال الفلاسفة والعلماء اليهود باكثر مما هي وعود مقدسة من السماء. وهو اعتراف ضمني مع تانيب تاريخي واعتذار حضاري بان الجميع قد اسسوا مواقفهم علي منظومة كاملة من الاكاذيب وفي قول آخر من الاساطير وفي قول متادب علي الحقوق الدينية. ولم يفطن احد عندنا باننا امام نقلة نوعية جديدة في سياده للعقل والمنطق وحقوق الانسان وتجانس عبر الاندماج جميعا في العولمة حيث المنافسة بقدر المشاركة وبقدر ما يحمله كل طرف من ابداع. فجاء الرد المقابل مباشرة عندما ردد بعض مثقفي العرب في اقامة امبراطورية اسلامية بنفس الاسس الدينية كما في اسرائيل غافلين عن الفارق الكبير الكامن في فقدانهم الكامل للعقل العلمي والمعرفي والحقوقي.
بعد حوالي ثلاث اسابيع التقط ساركوزي الخيط عند هذه النقطة ليعيد الاعتبار لليهود مجددا ومن زاوية اشد قسوه علي العقل العربي. فالرئيس القادم من باريس عاصمة النور والتنوير والنقد ذكر في خطابه ثلاثة – لم يذكر سواهم - وكلهم من اليهود : اسبينوزا وسيجموند فرويد واينشتين. فرغم يهوديتهم الا انهم وضعوا الاسس للخروج من عالم الاديان والاساطير الي حقائق الواقع.
كان سبينوزا الفتى اليهودي مخلصا لحضور دروس الاحد للحاخامات والقساوسة باللغة العبرية لغة الدين والنصوص القديمة والتراث المغلق، وتعرف في نفس الوقت على فرانسيس بيكون، توماس هوبز ورينيه ديكارت، وشاهد مناظرات فكرية خصبة بين أتباع ديكارت وخصومه.
كانت كتابات موسى بن ميمون، وإبن رشد قد منحت العقل الاوروبي ملكات جديدة في كتابه "فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من اتصال". وهو الكتاب الذي سبب محنة ابن رشد ومحنة للاسلام السياسي ايضا. فاكمل اسبينوزا المشوار بان فصل بين المجالين فصلا نهائيا، بحيث مهدت أفكاره لفصل الدين عن الدولة.
كتب اسبينوزا " رسالة في اللاهوت والسياسة " فحطم كثيرا من اوهام العهد القديم وجعل السياسة هي المحرك وليس العقائد. فلم يغفر رجال الدين له ووصف احدهم الكتاب بانه اشد الكتب كفرا في التاريخ لدرجة نقش الدعوة للبصق عليه علي شاهد قبره. وفي حياته تم عزله وحرمانه من الميراث. لكن جاءت اعاده الاعتبار عندما قال ارنست رينان المؤرخ والمستشرق الفرنسي ان اسبينوزا كان اقرب الي الله من كل رجال عصره.
وقف اسبينوزا موقفا نقديا طويلا امام الاله التوراتي الممتد في الاديان السماوية جميعها ليشرح طبيعة العقل السياسي الجبان والعاجز عن التبدي بعلانية ففضل الالتحاف بالغيبات خوفا من اكتشاف خبث نواياه. فلو صاغ اسبينوزا لفظا يعبر عن التاريخ التوراتي لاسماه اسبينوزا اليهودية السياسية كما هي التسمية الان بالاسلام السياسي. وكان مهموما بالاكثرية من الجهلاء المحتجزين في زنزانات الايمان. فاصبحوا وقودا لعدوانيات الحروب دينية والتي لم تثبت صحة ايا عقيدة او دين. لم يردد الرجل ان الله اعطي اليهود الكتاب والحكمة كما يحلو العرب قولها لانفسهم انما فتح افق العالم الي ثروة العقل النقدية التي لا تجف كلماتها حتي ولو كان البحر مدادا لها.
الحق ساكوزي فرويد باسبينوزا مباشرة حيث جرؤ الاول علي العلاج السيكلوجي للشخصية العدوانية عامة. لكنه كشف عن اسبينوزايته عندما كتب كتابه بعنوان مستقبل وهم. فتاريخ العلم الفرويدي هو تاريخ فك عقدة العدوان في النفس الانسانية بشكل فردي او جماعي فانتهي الي ان الحروب هي طاقة عدوان او طاقة لبيدو جنسية لم تجد الموضوع المناسب للاشباع. فمع تاريخ الكبت الدائم الذي صنعته البشرية في نفسها وجائت الاديان لتسد كل ثغرة ممكنة لمزيد من الكبت والقمع كانت الانفجارات كالحرب مضمونة الحدوث دائما، بل ومباركة باسم الرب يثاب عليها المؤمن اينما جاهد باسمه وتحت رايه كتابه ويصبح بعدها محققا حلمه المكبوت في جنة الخلد حيث الاشباعات الغرائزية اللامتناهية. ورغم ذلك يبدوا ان كثير من مشايخنا خارج تلك التفسيرات الفرويدية رافضين لها ولا يقدمون بديلا معقولا انما تفسير الاحلام بسذاجه مفرطة وادخال الجن والشياطين كلاعبين في الخط الاول في النفس الانسانية المكبوته. مشايخنا لا يشعرون بعجز وقلة حيلة اقوالهم لان الكفاية التي تحققها لهم دولة العلم والايمان تغطي احتياجاتهم دون تطلعات معرفية او مغامرات استكشافية.
تعاملت المحافل اليهودية بقسوة مع اسبينوزا ففصلته منها واخرجته من زمرة الجماعة كمنشق يستحق العقاب اي حكمت بردته علي طريقة الاسلاميين. اما فرويد فلم تكن هناك اي حاجة لتكفيره فالكفر والارتداد وعدم الايمان والشك وكل ما يحلو للعقل الاسلامي ان يصول ويجول به كسيف مسلط كانت متحققة في اوروبا في زمن فرويد الذي هو ايضا زمن اينشتين.
ظل عالم الفيزياء الاول البرت اينشتين علي ايمانه باليهودية لكن موقفه كان سياسيا مدنيا وليس لاهوتيا توراتيا فلم يلتحف باي اله او ردد الايات من تلك الكتب المقدسة ليثبت نظريته كما يفعل الاسلام السياسي عبر فلاسفة العلم والايمان عندنا. فرفض العرض السخي برئاسة دولة اسرائيل. فتاسيسها اسطوري ولاهوتي في زمن العقل العلم بينما الاخيرين لا يقبلا بالخرافة. كان اينشتين متسقا مع ذاته دون كفر او الحاد فقال بان العالم محكوم بقوانين هي اوسع بكثير من تلك الضيقة التي اتي بها نيوتن في زمن مطارة السحرة وتكفير العلماء وصادقة بعكس ما تحكيه الصورة الدينية الضيقة التي جاءت في الكتب المقدسة محتجزه الكثييرين في مصائد الايمان.
علماء ذلك الزمان الفوا كتبا، وكلهم وقفوا ضد الاسطورة والخرافة فصناعة المعرفة والتاريخ والحقيقة لم تعد تتحمل تلقيها من الخارج انما بشجاعة ابداعها من الداخل. وهو ذات السبب الذي اضاع – حقائق الارض - تحت مسمي القضية الفلسطينية بفضل ابنائها وحراسها العرب المدافعين عنها باساطير الدين والعنصر وكتب القبر وما قبل الخلق، فتحولت الي قضيتي الضفة وغزة، بينما تحققت الاسطورة التوراتية إذا ما تاسست علي قاعدة من العلم والمعرفة في كل الميادين علي ارض فلسطين التاريخية. اسطورة متحققة اسمها دولة اسرائيل لها منظرين كلهم من اهل الكتاب العلمانيين. الوحيد من القامات الكبري في تاريخ الانسانية الذي لم ياتي ذكره في الكنيست هو كارل ماركس اليهودي ربما لانه لم يعد هناك من رئيس علي استعداد لزيارة الكنيست يعيد له الاعتبار او دول عظمي تتبني الاشتراكية، ولو الي حين .