الأحد، 6 يونيو 2010

صديقي العزيز

في زمن الانتصارات الكثيرة والتي لم تثبت رؤية هلال رمضان لصدقها بعد، كان صديقي يخفي الكتب في اماكن يعتقد بحسه الامني ان زوار الفجر لن يعرفوا لها طريقا. كلها كتب ممنوعه بفرمان من زعيم الامة خالد الذكر وجهازه السياسي الاتحاد الاشتراكي. بعض من اصحابها وقرائها وحفاظ نصوصها والمعتنقين لافكارها كانوا في السجون. قتل من قتل وتشوه من تشوه وخرج سالما من خرج. لم يطلعني صديقي علي مكتبته وعنواين الاغلفة الا بعد ان تاكد انهم حقنوني بجرعات كيماوية مكثفة في دورة معسكر تاهيل القادة بمنظمة الشباب في فبراير عام 67. كنا شبابا يتم تجنيدنا لمحاربة الاستعمار والصهيونية والرجعية والاستغلال والراسمالية. ورغم ضعف ذاكرتي حاليا الا أني علي يقين بان الكفار لم يكونوا ضمن قائمة من سنحاربهم بعد.

كان صديقي محبا للقومية العربية والاشتراكية العربية والوحده العربية والمادية الجدلية والحتمية التاريخية. كان دائما يموه حديثه عن الاشتراكية بالسخرية من اي نقد للسلطة وافعالها وما نرصده في الواقع من تشوهات. اما عند الحديث عن الغرب وامريكا ومن هم علي شاكلتهم من ابناء الشياطين والقردة والخنازير والاغنياء والبرجوازية فكانت تقابل بالتكشير وتقطيب الجبين وحدة الصوت مع السب والشتم. لم تكن عناوين أغلفة كتب مكتبته من نوعيه كيف تمارس الجنس، او مذكرات عاهرة، او العلاقات الجنسية الصحية، بل كان اصحابها من امثال فرانز فانون، روجيه دوبريه، جورج بوليتزر، محمود امين العالم, واعمال ادبية عالمية كثيرة كالام والابله.

الا ان الرعب من اعلان حيازتها كان حاضرا دوما تخوفا من زوار الفجر الذين ياخذون اوامرهم مباشرة من رئاسة التنظيم الطليعي ومنظمة الشباب التي اصبحت عضوا فيها غصبا وليس تطوعا. فرغم كثرة الاوقات الجميلة التي قضيتها مع اصدقاء ذلك الزمن الا ان ما لا انساه من صديقي هو حادثتي خروجه مرتين مهرولا جريا يلطم الخدود ويشق الجيوب ويصرخ باكيا محاولا منع القدر من الوقوع او عوده الزمن لدقائق لتحاشي ما قد وقع. الاولي عندما تنحي الزعيم والثانية عند موته.
بعدها بزمن قصيرجفت دموعه وجرت مياه كثيرة في مواسير الصرف الصحي. وطفح معظمها في شوارع القاهرة معلنة نوعا من الشفافية لما كان يجري زمن الاشتراكية العربية والنضال ضد الاستعمار والصهيونية والاستغلال والراسمالية. كان الطفح يحدث علي طريقة الكتابة بصراحة من كاتب النظام الاول في جريدة الاهرام ومدير عام المجاري الصحفية.

في احدي ندوات المنظمة لتجهيزنا لنكون روادا وقادة قبل تنحي الزعيم، قال المحاضر سنحارب امريكا وسنهزمها. ما قاله لم يكن مقدمة لمحاضرة بل كنتيجة بعد شرح واف لتصبح مخيلتنا جاهزة لتقبل النتائج المحسومة مسبقا. كان المجندون لهذه الدورة كلهم مهندسون واطباء حيث لا اوهام فيما درسوه في الجامعة من البناء والتركيب في الهندسة او في العلاج والصحة. لم يكن العلاج بالقرآن قد اضيف بعد الي مناهج الفارماكولوجي او العلاج عن بعد. لكن السياسة عند الزعيم كان بها ما لا عين رات ولا أذن سمعت. ما فاتهم قوله، عندما استدعونا للدورة التأهيلية، التنبيه بالتخلي عما حشرته الجامعة من معلومات خاطئه في الطب والهندسة. او علي الاقل نسيان منهجية ما تعلمناه مؤقتا حتي تنتهي الدورة بسلام. فالوظيفة في السياسة عند العروبيين والقوميين لا علاقة لها بالعلم. وهو ما وجدته ايضا عند الاسلاميين مؤخرا. في احدي حلقات الاسلاميون علي قناه الجزيرة اتضح ان تنظيم الاخوان بدا بسباك ومكوجي ونجار وتباع علي عربة نقل بضائع. ومع كل التقدير فان احترام العمل وعدم التمييز واجب وحق وقانون عند المتحضرين الذين يعرفون معني قوة العمل في سوق العمل ودورها في انتاح الفوائض اشتراكيا كان ام راسماليا مهما تفاوتت فروقهم الطبقية. اما في العروبة والاسلام فالتخلي عن العلم شرط وان الاعتصام بحبل الله او الاستماع لمن لا مؤهل له فرض عين. اليست خير امة اخرجت للناس؟!

أثناء انعقاد هذه الدورة التاهيلية للقادة كان اسمي ضمن الذين وقع الاختيار عليهم لدورة اعلي ستنعقد في صيف نفس العام. لم نكن نعرف عن امريكا الا ما شاهدناه من افلام الكاوبوي وافلام الدراما والمعلومات والتي يستحيل اخفاؤها كاخبار الفضاء وصناعة السيارات التي يتيحها اعلام النظام وجهاز استعلاماته. لكن وبمجرد ان قال الموجه السياسي اننا سنحارب امريكا شهقت شهقة لفتت انظار الخمسة وعشرون طالبا في الخيمة. وتساءلت مندهشا "إحنا هنحارب امريكا"؟
تدخل المحاضر وطلب الالتزام بالقواعد، بان ارفع يدي اولا ثم اذكر اسمي ورقمي ورقم الفرقة. ولن اخوض كثيرا فيما جري من حوار لا لسبب سوي الالزهايمر المبكر حاليا. لكن ما اتذكره جيدا ان اسمي شطب من قائمة الدورة التالية وعدت بعدها الي عملي المدني لافاجأ بعد شهور قليلة، وقبل انعقاد الدورة التدربية الاعلي، بصديقي يخرج مهرولا باكيا للمرة الاولي.

فالامور في هذه الازمة كانت مما يمكن اعاده ترتيبه. فالزعيم لازال حيا. وجهازه لازال بخير. كل ما في الامر انه تهور ولو قليلا في مسالة التنحي او ربما كان هناك خطأ في صياغة خطاب التنحي الذي كتبه والفه وراجعه مدير عام الصرف الصحفي الشهير بصراحة.
كانت سعادتي بالغة لما استقرت حالة الصديق العزيز بعد اقل من 24 ساعة بالعودة الميمونه للزعيم خالد الذكر. كان صديقي محظوظا بالفعل. فخطاب التنحي لم يكن باكثر من "بلاف". كان صديقي ممن يهوون لعب البوكر والايستماشن والبريدج مع اصدقاء كثيرين وعلمني اياها لكني لم اجيدها مثله علي الاطلاق. ومع ذلك كنت من الذين وقع عليهم الاختيار لاكون من القادة والرواد في منظمة الشباب. فعندما ادرك المشرفين علي عمل اعداد القادة انني لست ممن يتقنون الـ "بلاف" أو عدم القدرة علي ممارسته وانني "مدب" حسب الاقوال الشعبية في مصر المحروسة، تم شطب اسمي من باقي الدورات التي توقفت فيما بعد لحادث غير سعيد وقع بدون قصد من الزعيم في التاسع من يونيو الشهير بعد وعكة حربية في الخامس نفس الشهر.

حمد صديقي الله علي التحسن في صحته وتوازنه السياسي بعودة القائد عن شططه بالتنحي، أما شططه في دخوله الحرب فذلك من الصغائر التي يمكن التكفير عنها بصيام شهرين متتابعين او اطعام عشرة مساكين. فكثيرين سقطت الهتهم ولم تعد ابدا او بمثل هذه السهولة ثانية الي قواعدها سالمة. فعلي سبيل المثال، أذكر هبل واللات والعزي حيث لازال افئدة من الناس تهوي الي عودتها بأم القري يتمنون رجوعها لاصلاح ما افسده الدهر علي مدي 1400 عام مضت وهناك من يقول بحق العودة واخرين ينشدون وراء ام كلثوم " إنا لمنتظرون" في اغنيتها النضالية الشهيرة البادئة ببيت الفصيدة"
" سقط النقاب عن الوجوه الغادرة .. وعقيدة الشيطان باتت سافرة ... إنا فدائيون.
رحمها الله ... ولعل رحمته بها كانت ارحم منا بكثير حيث تركنا لنشهد نحن النقاب في كل مكان والفدائيون باحزمة ناسفة وسيارات مفخخة قتلوا بها مسلمين كثيرين..
دامت سعادة صديقي سنوات قلائل تمزقت فيها الاوقات واصبح كل منا في طريق مشتتين بين ولاء اشتراكي أو قومي او عروبي. كلها لا يصلح للسير فالعاهات بها كثيرة بدءا من التصاق الفخذين او الفلات فوت.

بعد ارتداء الزي الذي يحدد المدني من العسكري ويضعنا في خانة الذين يحررون الاوطان ويستعيدون الكرامة وفي اثناء التدريب الذي نسيوا اجادته حتي لحظة خروج صديقي باكيا مولولا للمرة الاولي، وجدت ما يشبه المحاضر الذي شطب اسمي من سجلات الدجل الاشتراكي والقومي في منظمة الشباب. هذه المرة كان بزي عسكري ورتبة تتطلب التشنج اثناء تحيتها ولا يجوز مقاطعتها او طرح الاسئلة حتي ولو رفعت يدي او ذكرت رقمي في الجندية.

لم يكن اسم الدورة اعداد القادة انما التوجيه المعنوي. في المنظمة طالبونا بالاقتناع بما يقولونه. اما في التوجيه المعنوي فتوجيه الدفة التي في مؤخرة كل منا ربما كانت اكثر تاثيرا. فلم نعد في منظمة انما في قوات مسلحة اما الولاء (البراء لم يكن قد ظهر بعد) واما الخيانة. فاسمي لن يشطب هذه المرة بل ساكون في ساحة تنفيذ الاحكام. ولا اعرف علي وجه اليقين لماذا ادرجوا اسمي هذه المرة ايضا ضمن المطلوب توجيههم رغم اني المغضوب عليهم في فاتحة الكتاب وفي سجلات الاتحاد الاشتراكي. بررت الامر بانه خطا في تسليم وتسلم الكشوف من منظمة الشباب. فما اكثر اخطاء البيروقراطية المصرية. وهو ما اتمني تكراره يوم القيامة لادخل في زمرة الشهداء والصديقين. لكني ولجهلي بالعروبة وبالاسلام وقتها لم يسعفني تفكيري وقتها الي اكتشاف مصادر الخطأ.

ادركت الامر عندما وصل الامر بالمحاضر، المتشنج الجميع امامه، في توجيهه المعنوي بعد تقديم واف وشرح بليغ ومع التمحك في ضرورة التوازنات الدولية لرد الشبهات عن حالة العرب بقوله "سنهزمهم لان الله قال لو عدتم عدنا" مستفيضا في سرد سورة الاسراء ودخول الاقصي رايح جاي. عندها تذكرت قول الفقية الاسلامي مقلوبا عندما لم يتمكن السلطان بان يزغنا بزوار الفجر و بصراحة مواسير الصرف الصحفي والموجه السياسي في المنظمة فانه يزغنا بالامر العسكري والتوجيه المعنوي. لم يدرك الفقية قديما ان السلطان له الكلمة العليا علي القرآن حيث قال بان من لم يزغه القرآن يزغه السلطان. كان الوزغ هدفا في الحالتين. إما لاقناعنا بفكر القائد وكتابات الصرف الصحفي وإما بالمقدس الذي لا راد لقضائه..
كنا اقوي قوة ضاربة في الشرق الاوسط وقت ان أخذونا الي معسكر اعداد القادة في المنظمة وكان مجرد حرب امريكا هو ما يريدون توطينه في العقل. بعد الهزيمة الكبري في ربع ساعة
http://www.metransparent.com/spip.php?page=article&id_article=1628&var_lang=ar&lang=ar
بعدها تصاعدت احلام العصافير وارتفت شقشقاتها وخرج علينا مدير عام هيئة الصرف الصحفي بعد تسليك المجاري العمومية يشرح الاستراتيجية الجديدة لعدم حدوث انسدادات مرة أخري في مواسير النظام. ففي نفس الركن الهادئ تحت عنوان بصراحة كتب جوبلز النظام مشددا علي ضرورة تحييد امريكا في الصراع. ولولا عدم وجود اي مدخرات مالية لي في هذا الوقت لاقمت دعوي في المحكمة ضد من شطبوا اسمي في المنظمة ولطالبت الموجه الذي ابلغ عن عصياني بالتعويض او دفع ديه. لكني فضلت العفو عند المغفرة لقصر ذات اليد ولاني علي يقين ان الله لن يضيع اجر من احسن عملا.

لم تمر سنوات قليلة حتي خرج صديقي باكيا مولولا لمرة ثانية وأخيرة. بعدها تلاقينا كثيرا كل يغني علي ليلاه وامامنا زجاجات البيرة والمزة نشرب ونتذكر ونقلب الكتب. أخذت بعضها لقراءته ونسيت بعضها علي الكرسي الخلفي في السيارة وهي تقف في عرض الطريق. فهي لم تعد خطرا ولا تلفت نظر احد ولا تهم الامن. فقد اصبحنا جميعا في حضن امريكا ولا خطر من احد علي احد. ولا حول ولا قوة الا بالله.

منذ ذلك الوقت بدأ اصحاب السيارات، عيني عينك وبكل بجاحة، في وضع المصاحف في مقدمة السيارة ومؤخرتها ايضا، فهي ليست من الممنوعات ولا حتي مما تطارده السلطة او امريكا. فالناس اصبحوا اكثر عددا وعبئا علي الحكومة بعد حل المنظمة والتي تحولت الي حزب سياسي بلا فكر او ايديولوجيا ولا توجيه سياسي او معنوي. فالناس ليسوا وفي حاجة الي من يرشدهم لا الي الاشتراكية او الحرب فهناك جنات خلد تنتظرهم فيها ما لا عين رات ولا اذن سمعت. يعب منها كل ذو حظ عظيم من السلع بلا ثمن ولا جهد ولا استغلال فيها كل الملذات بدون عرق او حيض ونفاس. دخولها سهل، كل ما يتطلبه الامر العودة الي الله كما عادوا من سيناء وبالا يسقطوا النقاب عن الوجوه الجميلة حتي يسود القبح والا يتبنوا عقيده الشيطان لكن بالقيام بكل افعالة بعد تقديم الاستعاذة والبسملة لضمان عدم الاعتراض او زيارات الفجر.
ملحوظة: نفس معسكر إعداد القادة في منظمة الشباب تحول الان الي مركز لاعداد الدعاة من الاسلاميين ولا زال القبض يجري علي من يقرأ كتاب فرانز عمر فانون الشهير "الولاء والبراء" !!!!!!!!!!!
مع الاعتذار لاي اخطاء مقصودة او غير مقصوده

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق