الاثنين، 27 أبريل 2009

كارثة الفكر الإسلامي طوال التاريخ

في مارس 2009 بثت محطات التلفزيون الباكستانية مشاهد لرجال من حركة طالبان الباكستانية وهم يقومون بجلد امرأة اتهمت بارتكاب جريمة الزنا ورفض كل من مفتي باكستان ورئيس الجماعة الإسلامية المنتخب حديثاً منور حسن التعليق على المسألة، وهو امر طبيعي فهل يناقض رجال الدين احكام شريعة الاسلام؟ وبرر كل منهما هذا التحفظ بأن المعلومات حول الموضوع كانت شحيحة. وقال منور حسن إنه لا يعلق لمجرد مشاهدة شريط فيديو، وثنى بالقول بأن إثارة مثل هذه القضايا الثانوية يجب الإعراض عنه لصالح التركيز على التدخل الامريكي في باكستان بدعوى مكافحة الإرهاب. من جانب آخر فإن المنظمات الحقوقية قالت إن ما يحدث ردة إلى عصور البربرية.
الملفت في هذا الجدل هو أن أيا من هذه الأطراف لم يثر قضية الشرعية في هذه المسألة، وما هو مصدر سلطة الجهة التي ادعت أنها تنفذ أحكام الشريعة؟ وهل يجوز لأي جهة كانت، وأي جماعة أن تعلن نفسها جهة مخولة تطبيق أحكام الشريعة في منطقة ما بدون الرجوع إلى أي مرجعية تمثل الأمة؟ فالأمر لا يتعلق بتفاصيل العملية، وما إذا كانت كما قال بعض العلماء تتعلق بحضور قاضٍ أو بقيام رجال بالإمساك بامرأة وضربها علناً أمام جمهور رجالي، وإنما بأصل العملية وأحقية الجهات التي نصبت نفسها قيادة دينية وسلطة قضائية وشرطة تنفيذ بدون مرجعية.
وليست هذه هي المرة الأولى في التاريخ الإسلامي القديم والحديث التي تقوم فيها مجموعة من الخوارج على إجماع الأمة بتنصيب نفسها حكومة إسلامية شرعية تجعل نفسها ليس فقط حكماً على من يقع في قبضتها من سيئي الحظ، بل على الأمة بكاملها. فقد كان الخوارج من قبل يكفرون سواد الأمة، ويطبقون حد الردة علي كل مسلم يقع في قبضتهم. نفس الأمر قامت به الجماعات الإسلامية المحاربة في مصر في السبعينات ثم في التسعينات، حيث كان أنصاف المتعلمين في هذه الجماعات يصدرون الفتاوى المبررة للقتل والنهب ويشاركون في تنفيذها. وتكرر الأمر في جبال الجزائر في التسعينات وحالياً في ما يسمى بتنظيم القاعدة في المغرب العربي ودولة العراق الإسلامية وغير ذلك من الكيانات التي نصبت نفسها سلطاناً ينوب عن السماء ويقوم مقام الأمة الخارجة في نظرهم عن الشرعية. وليس حركة طالبان إلا حلقة جديدة من حلقات هذا المسلسل.
قيام حركة طالبان الباكستانية على غرار سلفها وحليفتها طالبان أفغانستان وتمدد نفوذها له دلالات عميقة وهامة ذات علاقة بحاضر الدولة الباكستانية ومستقبلها، وأيضاً بحال الإسلام والأمة الإسلامية ومستقبلها. فعندما قامت طالبان أفغانستان جاءت نشأتها في ساحة تتنازعها حركات الجهاد المسلحة في جو شهد فراغاً سياسياً وغياب شرعية مجمع عليها. وعليه فلم تكن قضية الشرعية مثارة في ساحة كانت الشرعية فيها تنتزع من فوهة البندقية. بل بالعكس وجدت الحركة سنداً شعبياً لأنها وجدت دعما من المملكة العربية السعودية باعتبارها الدولة المفوضه بالحديث عن الجلد والرجم وبتر الاطراف وعقاب المرأة تحت مسمي الشريعة الغراء. ولكن الأمر يختلف في باكستان التي توجد فيها سلطة مستقرة وحكومة منتخبة وتملك جيشاً قوياً له ترسانة نووية. فكيف تقوم فئة أياً كانت بتنصيب نفسها سلطة مسلحة تستولي على الأرض وتنفذ الأحكام في ظل أوضاع كهذه؟
يضاف إلى ذلك أن باكستان تعتبر أيضاً موطن إحدى الحركات الإسلامية الحديثة الرائدة، منذ أن أنشأ فيها (أو في الهند قبل تقسيمها إذا شئنا الدقة) السيد أبو الأعلى المودودي الجماعة الإسلامية في عام 1941. وقد قدمت الجماعة الإسلامية تحت قيادة المودودي مساهمات مقدرة في الفكر الإسلامي الحديث والممارسة السياسية، وتأثرت بها الحركات الإسلامية الأخرى ونهلت من معينها، خاصة حركة الإخوان المسلمين في مصر (الجناح المحيط بسيد قطب). وهناك الكثير مما يستحق الانتقاد في فكر الجماعة الإسلامية وممارساتها، حيث وصفت بالغلو حيناً وبالجمود والتزمت أحياناً، وقد تجاوز الزمن على كل حال كثيرا من أطروحاتها. ولكن فكر الجماعة الإسلامية على علاته متقدم بسنوات ضوئية على الفكر الطالباني المهووس بالمرأة ومحاصرتها وإلغائها، حتى من دور العبادة وأماكن العلم.
فالحركات الإسلامية الحديثة متهمة بالظلامية والتخلف والسعي إلى إعادة المجتمعات الإسلامية إلى العصور الوسطى فكراً وممارسة. وهناك اتهامات مماثلة لنظم الحكم التي تستلهم الإسلام، خاصة في إيران والسعودية. وهي اتهامات علي جانب كبير من الصحة. فالنظام السعودي نشأ من تراث واحدة من آخر حركات ما قبل الحداثة الإحيائية، وأسس في مجتمع قبلي بدوي لم تكد يد الحداثة تمسه. أما النظام الإيراني فإنه جاء في بلد قطع شوطاً كبيراً في التحديث، ولكنه جاء من داخل الحوزة العلمية التي تشبه مدارس طالبان في كونها امتدادا لتراث ما قبل الحداثة، وهيمن عليه علماء تلك الحقبة وتفكيرها.
ولكن بالرغم من ذلك فإن كلا من النظامين السعودي والإيراني وبشكل انتهازي تعلم من الحداثة وأخذ منها الكثير لدعم حمه للبلاد والعباد. فالسعودية شهدت تقدماً كبيراً في مجال التحديث الامني وفي مجالات البنية التحتية. إيران أيضاً شهدت تقدماً تقنياً في مجالات عدة (خاصة التسلح) واجتماعياً في مشاركة المرأة في الحياة العامة، وسياسياً في تبني المؤسسات ذات الطابع الديمقراطي من برلمان ونظام انتخابي وغير ذلك. نعم لا يزال في كل من النظامين قصور كبير وتخلف في نواح كثيرة، ولكن كلا منهما يعايش عصره ويأخذ بكثير من مزاياه لكنه يظل علي تبنيه البربريات في قانون العقوبات تحت مسمي الشريعة.
أما الحركات الطالبانية بشقيها الباكستاني والأفغاني فتسيطر عليها طائفة من الأميين والجهال ليس فقط بأمور الدنيا، بل بكثير من أمور الدين. وكثير من قادتها يعلون تراثهم القبلي الجاهلي المعادي للمرأة باعتبار ان أحكام الشريعة تتفق وبدائيتهم. ولا شك أن حركة طالبان لو استمرت في حكم أفغانستان كانت ستتحول (ربما بعد عقود) إلى نموذج يشبه النموذج السعودي، وربما الإيراني (بعد قرون)، ولكن السؤال هو ما هو عدد الضحايا الذين سيدفعون ثمن هذه الفجوة، علماً بأنه لا النموذج السعودي ولا الإيراني بصورتهما الحالية يقتربان من المثال الإسلامي.
لقد شهدنا في تطور الحركات المشابهة في مصر والجزائر إعلان التوبة والرجوع عن الممارسات التي اعترفت بخطئها، ولكن بعد أن قتلت ودمرت وأساءت إلى الإسلام. وقبل ذلك تبعت هذه الحركات طريق أسلافها الخوارج في الانشقاقات والاقتتال الداخلي. فمن الطبيعي في هذه الحركات التي تنصب نفسها حكماً على الأمة ونائباً عنها أن يعتبر كل فرد فيها أنه حاكم بأمره. وهكذا يقود أقل خلاف إلى تكفير أفراد هذه الحركات بعضها بعضاً. بل إن الحركة الإسلامية المقاتلة في الجزائر أعدمت قادتها أكثر من مرة بتبريرات مضحكة مبكية.
هناك مسؤولية أخلاقية دينية أمام الأمة وعلمائها ومفكريها ألا يسمحوا للجهال بأن يأخذوا الأمة رهينة لجهالاتهم وضلالاتهم. والموقف المتخاذل لقيادات الحركة الإسلامية في باكستان وخارجها تجاه ما يقع في وادي سوات باسم الشريعة يعبر عن خلل كبير في الفكر الإسلامي الحديث، حيث أصبح من السهل ابتزاز العلماء والمفكرين بمجرد رفع شعار الشريعة الإسلامية مهما كان الفهم للشريعة وتطبيقها قاصراً. ومن أبجديات الفهم الإسلامي هو أن النظام الإسلامي كل متكامل، وأن من يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض هم بحسب القرآن 'الكافرون حقا'.
وقد كان كثير ممن يسمون أنفسهم قادة المجاهدين في أفغانستان يمارسون الشذوذ الجنسي جهاراً ويغتصبون الأطفال، ويمارسون النهب والقتل، ثم يطبقون بالعنف اجتهادات قاصرة حول المرأة أو جزئيات أخرى. وبالمثل نجد أن غاية ما جادت به قريحة طالبان باكستان من فهم للإسلام هو هدم مدارس الفتيات وفرض الجهل على النساء، حيث لم يفتح الله عليهم ببديل بناء، مثل استخدام هذه المباني لغرض آخر، أو تقديم منهج تعليمي بديل. ذلك إنه ليس لديهم علم بديل، ولا بضاعة يسوقونها سوى الجهل والتجهيل.
الذي سيحدث لو استمرت سيطرة هذه الفئات على وادي سوات وما حوله هو أن غالبية سكان تلك المناطق سيهجرونها إلى أمكنة أخرى، وستتحول مناطق طالبان إلى خرائب ينعق فيها البوم والجهال من رجال القبائل. صحيح أن باكستان تعاني من فساد واستقطاب سياسي، كما أن الحرب الأمريكية علي الارهاب ستزيد من الدعم الشعبي لطالبان والحركات الإسلامية المتشددة. ولكن أيا من هذا لا يجب أن يكون مبرراً للتواطؤ في الإساءة إلى الإسلام باكثر مما هو قائم وموروث.
إن الفكر الإسلامي الحديث حول الحكم ما يزال يعاني من قصور أساسي وتخلف كبير في معظم نواحيه، ولكن القصور في الفكر التقليدي عموماً، وتجلياته التي أشرنا إليها (بما في ذلك التجارب السعودية والإيرانية) هو أنها تتعامى عن واقع الحداثة ومعارفها حتى تصطدم بها مثل سفينة تبحر في الليل البهيم بغير هدى فتواجه الكارثة أو تحول مسارها مئة وثمانين درجة. ولهذا نجد هذه التركيبات تتجه من تطرف إلى آخر، فهي تتطرف حيناً في التعصب لجزئيات مبتورة عن سياقها، ثم ما تلبث حين تصصدم بالواقع أن تتطرف في الاتجاه الآخر، فتبالغ في الخضوع للأجانب والتنكر لأبسط قواعد الدين.
ما يجري في باكستان ليس إذن تحديا لأهل الباكستان وحكوماتهم المتضعضعة الفاسدة، وإنما أيضاً للعالم الإسلامي ككل. فالأمر لا يتعلق فقط بالصراع الدموي حول بقعة في أطراف باكستان، ولماذا يصمت أهل الرأي والعلماء عن هذا التشويه للدين والعدوان على فتيات الأمة ونسائها بغير وجه حق، فهل العدوان لا يكون عدواناً إلا عندما يجترحه الأمريكان كما قال زعيم الجماعة الإسلامية، أم أن العدوان الأكبر هو الافتراء علي البشر بغير سلطان مبين؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق