يصارع الشرق الاوسط ذاته محاولا العلاج من امراض كثيرة لحقت به من جراء العروبة ثقافيا من جهه وسياسيا من جه اخري. ولنبدا بالسياسي لكونه ممسكا بتلابيب كل مجتمع علي حده وينادي بالعروبة رغم انها المرض الواجب الشفاء منه.
يتعامل النظام السياسي علي جبهتين الداخلية والخارجية ولم ينجح في ايا منهما لسبب لم يعد خاف علي احد الا وهو الدين. فالدين، بطبيعته، لا وجود مادي له يمكن التعامل معه بموضوعية، انما هو اقوال بشر تمت بها السيطرة علي عقول لم تكن لها معرفة عميقة بمعني الوجود او قوانينه. أما بالنسبة للخارج فهو سهم طائش يصدر من داخل المنطقة ليبطش بمن في الخارج اجتماعيا وحضاريا هدما للعمران وتفتيتا للنسيج الوطني في دول علمانية مدنية في اسس تكوينها الحديث. قديما، سقطت روما بالمسيحية وخضع حاكمها لاقوال البسطاء المظلومين من جراء نظامها العبودي. لكنها وبعد السقوط جرت اوروبا باكملها الي عصور الظلام. ذات الامر في الاسلام عندما اجتاحت القبائل العربية بدون اي مبرر كل مناطق الشرق الاوسط. وبكلمات اخري، فإن الدين بالنسبة للعالم خارج وداخل الشرق الاوسط هو عامل هدم وليس بناء.
الترويج الدائم للدين عبر الاعلام الذي يتحكم فيه النظام السياسي المشترك في كل دول المنطقة تمتنع معه انطلاق القدرات الفردية وتحقيق حد ادني من التنمية القائمة علي التشارك بالمساواه التامة في الحقوق والواجبات بين ابناء الوطن الواحد. وهذا هو الفارق بين أوروبا بعد انتفاضها من قدرها المسيحي وبين الشرق القابع في ظلام العصور الوسطي. إضافة الي ان الامساك بتلابيب الدين الاكثر انتشارا يحول المنطقة بشكل دائم لقنبلة قابلة للانفجار الطائفي في اي لحظة، هي ذاتها اللحظة التي يجد النظام العربي ذاته مأزوما في لحظة اشعالها تامينا لنفسه بحجج الحفاظ علي ذاته المفرطة والمفرطة في حقوق المواطنين مهما كانت دياناتهم، مغامرا بتعريض السلام الاجتماعي والوحده الوطنية وسياده القانون والمساواه والعدالة بين المواطنين الي الخطر. فالدولة تحت مثل هذا النظام لم تبحث بجدية في خلفياتها التاريخية التي اوصلتها لحالها الراهن. لكنها اعتمدت موروثها القروسطي في تعاملها داخليا وخارجيا الملئ بالفتن الدينية. فهي لم تعد تعبأ بما يهدد بنية الدولة من داخلها، بعد ان قلل الفكر القومي العروبي والاسلامي من دور الفرد، ولم يعتمد شكلاً حداثيا من أشكال الوحدة الحديثة، وعليه فقد امعن في السفك بحقوق المواطنة والوطن لصالح ما يجعل الانفجار الطائفي ممكنا.
ولان النظام العربي لا يريد الخروج من مازقه لاستفادته من المأذق ذاته فقد تمترس وراء ثلاث دوائر هي الوطنية والقومية والاسلامية. لكن المثير للسخرية ان كل نظام حاكم يتشبث في الوطن ويتاجر بالقومية والاسلام. وكما قال احد دهاة السياسة بان "الوطنية آخر ملاذ للاندال" فقد تم اللعب بالقومية والدين ويبقي النظام يدافع عن الوطن حتي ولو تبني اجنده الدين والقومية الوافده عليه. لكن ولان الوطن ليس له سوي اكثر من ملاذ للاوغاد فلن يفعل به هؤلاء باقل مما فعلوه عندما عاثوا فسادا باسم القومية والدين في كل الشرق الاوسط فيما سموه بالامة قوميا مرة واسلاميا مرة أخري. فالوطن اصبح وكرا للخارجين علي القانون او منصة اطلاق كالتي تقيمها حماس لجباية شرعية باسم ما يسمي مقاومة لصالح الامة!!!!
التوفيق بين ثالوث الوطنية والقومية والدين مستحيل في اي مكان في العالم. فكل وطن ليس سوي اكثر من عده هويات عرقية تم تذويبها، ويجمعهم اديان متعدده حتي ولو تضاربت الهه كل دين. لهذا فان الوطن بمدنيته هو الحل الوحيد علوا فوق الفروق التي لازال يحلو لبعض السفهاء استغلالها لفك اوصال اوطان اوروبية حققت رفاهية وامن ومواطنية لكل سكانه مثلما نسمع عن محاولة شق سويسرا الي ثلاث دول من منصة اطلاق من شمال افريقيا.
مصلحة النظم الحاكمة في الشرق الاوسط لا تقوم علي استغلال قوي المواطن الفكرية والعقلية والعضلية وكذلك عمل مؤسساته المتعدده مع استغلال أمثل للمصادر الطبيعية وما توفره البيئة من ثروات إنما الادعاء بانه القادر علي حماية الامن القومي والوحده الوطنية وامن المواطن والدفاع عن الدين والعقيده. وبكلمات واضحة هو يتبني ويدافع عن كل التناقضات وحواف الدم داخل كل وطن برعايتها وليس بابطال فعاليتها. فاستغلال الدين المتمسكين به ويوجهونه دعاية وترويجا، بيعا وشراءا، بعمل فتن طائفية لكفيل ببقائهم بحجة الحفاظ علي امن الوطن والمواطن بعد ان فقدوا كل الاوراق في ملفات الامن القومي العربي للمنطقة. قبل ذلك اتوا باكبر هزيمة في تاريخ البشرية في حرب يونيو الشهيرة عندها سقط البعد القومي. الان يتلاعبون بالدين ولن يكون الامر مختلفا في نتائجة لان اللاعب هو ذات البهلوان بامكانياته العاجزة علي نفس الحبال التي سقط منها سابقا.
المشكل الاكبر في مسالة استخدام الدين انه سريع الالتهاب اينما وجد، لهذا يتم تصديره الي الخارج في اوطان تخلصت من الارث الديني بكل تخلفه وعنفه وعدم تلبيته لطموحات الانسان. هكذا تضع النظم حدود الدم والدين وخلق جبهه ساخنة بين ما هو اقليمي وعالمي.
ولان النظام العربي الاقليمي لا ارث حضاري له سوي ما في جعبة العروبة من ثقافة سياسية او معرفية فان الضحالة والجهل هو ما يميزه عن باقي النظم في العالم. فلم يدرك النظام العربي الحكمة البسيطة القائلة بان "ما تصنعه يصنعك". جهلهم الفادح اوصل اليمن ان تصبح حاضنة لكل انواع التناقضات الايديولوجية في اعلي مراحلها الفكرية (كالايديلوجيا الماركسية في الجنوب) متضاربة ومتصارعة مع احط وادني التشكيلات القبلية البدائية في سلم التطور الحضاري الانساني وكلها تجري برعاية نظام عربي تحت قبه جامعته ويجمع كل شئ في جعبته لكنه كالحمار (مع الاعتذار لهذا الحيوان المسالم) لا يدري بما يحمله علي ظهره حتي ولو كان الماء وهو يعاني من العطش. الامر الذي ادي الي ان تصبح ارض هذا البلد حاضنة لاحط انواع الفكر الديني السلفي ممثلا في الارهاب الاسلامي الاصولي. انها تكرار ممل لتجربة الصومال والجزائر والسودان.
يختلف نسيج كل وطن عن الاخر في الشرق الوسط، بل ان تاريخية كل منها تختلف جذريا في نشاته واصوله وكيفية تعامله وقبوله للاسلام. فالاخير هذا (وقت تاسيسه) حمل كثيرا مما لا يصلح للمجتمعات الاكثر تقدما حضاريا لهذا (وبعد دخوله اليها) تشكلت بيئات حضارية كل منها يحمل ما يناسبه. ورغم ذلك ظل النظام العربي يردد اقوال الارهاب الاسلامي بان هناك وطن اسلامي واحد يسمي دار الاسلام اقام له مؤسسات كمنظمة المؤتمر الاسلامي لتضم من ليس بعربي، فيه تركيا وباكستان واندونيسيا وايران واوطان افريقية وآسيوية لا تنتمي للعروبة اللهم الا بقدر ما ينطق به القرآن صوتيا. فاكثرية مسلمي دار الاسلام من العجم وتسوده خياراتهم بما يصلح لها من قيم الاسلام الخام الذي وصلهم سابقا. فمثلما تشكل ما اصبح يسمي وطن عربي يختلف باختلاف مكوناته الحضارية تشكل عالم اسلامي يختلف باختلاف مدي قبوله ما يناسبه مما في الاسلام. فالتململ، علي سبيل المثال، من تعدد الزوجات دفع تونس التي حسبت علي التجمع العربي والاسلامي ان تعيد النظر في مفهوم التعدد الزواج قانونيا. وفي السودان الذي يضم اكثرية من العجم الزنج اخذت المعارضة السياسية باصوليين سابقين مثل حسن الترابي علي الخوف من تفتت وطنه تحت دعاوي العروبة او الاسلام فاقترح بجواز زواج اليهودي من مسلمة وكذلك حق الارتداد والاعلان عنه. بل اصبح لدينا وبشجاعة مشكورة من يقول في مصر بجواز ولاية المسيحي المصري (القبطي) للولاية العامة.
تدهور دور العرب، رغم كل الدعم المالي لاعاده زرع العروبة وعسف الاسلمة في العقود الاخيرة، ادي الي اعاده النظر فيما يقال بانه شريعة اسلامية. لكنه لا يكفي في حده الادني للقول بان وجها عروبيا او اسلاميا جديدا يحاول ان يتوافق مع واقع حال العالم في هذه الالفية الجديدة لان هناك شواهد اخري كزرع النقاب المدفوع الاجر في فرنسا او محاولة تطبيق قوانين الشريعة في المانيا وكندا تؤكد ان صراع التحولات في اتجاه التحضر والمدنية داخليا جعل الاصولية العربية بوجهها الديني يفتح جبهه المعركة الحضارية بزراعة ما ينبغي التخلي محليا في التربة العالمية. وكما سبق قوله فان النظم العربية تتفق والاسلام الاصولي معتبرة نفسها جزءا من دار الإسلام الذى يدعي انه لا يفرق بين العربى وألاعجمى لكنه يشهد بالعنصرية ضد ما هو عثماني او ايراني او تركي او زنجي او امازيغي او قبطي، كلها ظلت قائمة واضيفت اليها كل العناصر التي وفدت تحت الاستعمار الاوروبي للمنطقة والتي تحسنت فيها احوال أهل الذمة باكثر مما انجزه العرب والمسلمين علي مدي اكثر من الف عام.
أدت التداخلات العرقية والثقافية والحضارية المكونة لمنطقة الشرق الاوسط بكل ما فيها من قديم اصلي او وافد مستجد الي ظهور افكارا جديدة لم تكن المنطقة بقادرة علي انجازها قبل ذلك. فالفكرة القومية هي من اصل اوروبي منذ نشاه الدولة االاوروبية الحديثة وهي ذاتها التي اختفت حاليا داخل عباءة العولمة لكن الفكرة ذاتها مازالت تفجر جدار الدم للتفرقة بين ما هو عربي وأعجمي وسني وشيعي ومسلم وغير مسلم. فمع ظهور فكرة القومية العربية واخفاقها السريع اشتعلت معها ازمة الهوية ومدي تحديدها فيما اسموه وطن عربي او عالم اسلامي. وبينما ظلت العلوم والمعارف الاوروبية هي الاساس في الفهم والمعرفة في الزمن الحديث بمساهمتها لانشاء الدولة الحديثة، فقد ظهرت لها مقاومة من نوع آخر تهدف الي اسلمة العلوم تخلصا من العلم الحديث وتشكيله لعقل حداثي لكل من افترسته العروبة يوما او دخل في الاسلام ظالما او مظلوما.
مع كل ازمة اصبح لقراءة أعمال المستشرقين اثر كبير في فهم اسباب الازمة وكيف أنها كامنة في التراث المشرقي الذي لم يتعرض للنقد داخليا. واكتشف كثيرين بعضا مما تعايشوا معه دون وعي منهم بمدي العسف الذاتي بهم جراء قبول ما لم يشاركوا في تاسيسه او قبوله او حق الارتداد عنه. وهي ذاتها الفترة التي بدت ازمة الهوية تاخذ منحي شديد الانحدار في اتجاه اعاده صياغة الذات اصلاحا للتخريب المستدام املا في تنمية مستدامة. فكما لم يفلح تاريخ المنطقة في إلغاء ما هو وطني قديم ومتجذر وفي زرع ما هو قومي شوفيني وعنصري بالتوحيد علي اسس اسلامية فان النخب الثقافية باتت تبحث عن سؤال الهوية مرة اخري. كسر بعضهم كثيرا من تابوهات الماضي وتبرؤا من كتب خطوها بايديهم في زمن الاحلام التي اتت باكثر الهزائم قسوة وباعظم الخسائر فداحة.
وقف النظام العربي يرصد ما يجري تحت جسوره من مياه آسنة وحاولت اجهزته التعويضية كالجامعة العربية او المؤتمر الاسلامي في إعاده توجيه رياح العنف الداخلي والتمزق الوطني والتخبط الاقليمي الي الخارج كالدفاع عن الحجاب والنقاب في اوروبا مستخدمين الشحن الجماهيري علي الطريقة العروبية القومية او الاسلامية الاصولية، كما جري في حادثة مقتل المحجبة المصرية في المانيا او قانون منع المآذن في سويسرا وقوانين الضبط والمراقبة في انجلترا ومنع النقاب في فرنسا. ولم يعي النظام العربي بعد ان الهوية الوطنية خارج عالم العرب والاسلام قد تاسست علي قيمة الفرد ومدي عطاؤه ومساهمته وليس علي اساس عرقه او دينه ومدي طاعته لحكم اولي امر لم يشارك في اختيارهم. لهذا حققت هذه المجتعات نموا غير مسبوق بما فيها الصين التي تتحول وتجدد شبابها. جميعهم اخذوا فرصتهم لاكثر من نصف قرن اثبتت فيها الهوية المتماسكة والقوية قدرتها علي الصمود ومواجه التحدي بعكس عالم لغة الضاد والاسلام الذي يتخبط في دمائه الداخلية ومخلفاته الحضارية حيث اصبح الدين وكأنه القبيلة والعرق والعنصر والقومية وكأنه الذات والهوية وضاع ما كان يسمي وطنا ربما لان العرب لم يعرفوا القومية ابدا ورددوا بجهل ان الاسلام وطن.
فليس هناك تضليلا بأكثر مما يوفره الفكر العربي المعاصر والقديم من إشكالية الدولة ونظامها السياسي. فهي الدولة السلطة ولا شئ آخر ولا علاقة لها بما يسمي بالأمة أو بالمجتمع المدني أو بالحريات الفردية؟ إن كل ما هو عربي او اسلامي يتناقض جذريا لمفهوم الدولة الحديث بشقيه الليبرالي والماركسي. فالاخيرين يعتمدان علي واجبات شروط العمل بغض النظر مدي اتساع ايهما لراي الفرد في كلا منهما وحرياته الفردية ووحقوقه بالتبعية. لكن النظام العربي الذي بات خطرا علي العالم الخارجي ليس اكثر من جماعة مثل جماعات الكهوف الطالبانية ترعي قطيعا يسمي الشعب تدربه علي النباح ضد كل الانظمة الخارجية تحت مسميات قديمة اسمها الامبريالية والاستعمار والهيمنة. وحاليا فقد اسفر وجه النظم عن نباح تؤديه بدلا منه جماعات الاسلام السياسي بان العالم الخارجي هو دار حرب.