في ليلة سوداء خرجت جماعات مسلحة الي شوارع العاصمة لتحاصر قصرا ملكيا لم يكن به احد سوي الخدم. وجهوا فوهات مدافعهم الي مكان ليس به الشخص الهدف الذي قاموا من اجله. بعد ساعات قلائل وفى صباح يوم ٢٣ يوليه وبعد احتلال دار الإذاعة اذاع احد ضباطها البيان التالي:
"اجتازت مصر فترة عصيبة في تاريخها الأخير من الرشوة والفساد وعدم استقرار الحكم، وقد كان لكل هذه العوامل تأثير كبير على الجيش، وتسبب المرتشون والمغرضون في هزيمتنا في حرب فلسطين، وأما فترة ما بعد الحرب فقد تضافرت فيها عوامل الفساد، وتآمر الخونة على الجيش، وتولى أمره إما جاهل أو فاسد حتى تصبح مصر بلا جيش يحميها، وعلى ذلك فقد قمنا بتطهير أنفسنا، وتولى أمرنا في داخل الجيش رجال نثق في قدرتهم وفى خُلقهم وفى وطنيتهم، ولا بد أن مصر كلها ستتلقى هذا الخبر بالابتهاج والترحيب. أما من رأينا اعتقالهم من رجال الجيش السابقين فهؤلاء لن ينالهم ضرر، وسيطلق سراحهم في الوقت المناسب، وإني أؤكد للشعب المصري أن الجيش اليوم كله أصبح يعمل لصالح الوطن في ظل الدستور مجرداً من أية غاية، وأنتهز هذه الفرصة فأطلب من الشعب ألا يسمح لأحد من الخونة بأن يلجأ لأعمال التخريب أو العنف؛ لأن هذا ليس في صالح مصر، وإن أي عمل من هذا القبيل سيقابل بشدة لم يسبق لها مثيل وسيلقى فاعله جزاء الخائن في الحال، وسيقوم الجيش بواجبه هذا متعاوناً مع البوليس، وإني أطمئن إخواننا الأجانب على مصالحهم وأرواحهم وأموالهم، ويعتبر الجيش نفسه مسئولاً عنهم، والله ولى التوفيق".
بعد ثلاثة أيام إجبر الملك فاروق على التنازل عن العرش لابنه أحمد فؤاد ومغادرة البلاد. وفى اليوم التالي أصبح جمال عبد الناصر رئيساً للهيئة التأسيسية للضباط الأحرار.
كان الملك في الاسكندرية وقت حصار القصر في القاهرة ولم تشهد المدينة اي حراك وعندما غادرها الملك كان السفير الامريكي كافري (رضي الله عنه) في وداعه في مينائها التاريخي. ولحفظ ماء الوجه فقد تم استدعاء محمد نجيب لوداعه فوصل متاخرا الي حد انه اضطر الي اخذ زورق حربي للحاق بالباخرة المحروسة في عرض البحر لتقديم التحية.
لم يكن الملك اسيرا بين ايدي من قالوا بانهم ثوار بل في حضرة السفير كافري (رضي الله عنه) ومع ذلك خرج البيان ليقول " إجتازت مصر فترة عصيبة... وتولى أمرنا رجال نثق في قدرتهم وفى خُلقهم وفى وطنيتهم " التعديل في البيان هنا متعمد.
كان تحديد الملكية والاصلاح الزراعي من اول مشروعات المماليك الجدد رغم انهما من مشروعات حزب الوفد المصري والاهم انهما كانوا ضمن التوصيات الامريكية حسب ما جاء في صـ 114 من كتاب د. انور عبد الملك " مصر دولة يحكمها العسكر" والذي تبدل عنوانه الي " المجتمع المصري والجيش" (طباعة دار المحروسة) ومعها وقف الحياه الحزبية وإنهاء العمل السياسي في الشارع المصري.
افترض بعض اليساريين مثلما اوحت الولايات المتحده ان تفتيت الارض بحجة الاصلاح ضروري لتاسيس القطاع الصناعي الحديث رغم ان امريكا نفسها بها اكبر املاك زراعية. هكذا نفذ ثوريوا الليالي السوداء برنامجا هو في حقيقته نسف للقواعد الاجتماعية الريفية لطبقة كبار الملاك وأحلالها ببرجوازية صغيرة رثه حجم املاكها لا يحقق عائدا يكفي لحياه كريمة. كان الثوريون يبرجزون الريف، فهل انتقلت عوائد الريف الي المدينة للتصنيع ولتحديث المجتمع؟
بتفكيك الاحزاب تم اقتلاع العقل السياسي للطبقات الاجتماعية وبهذا وقفت حركة الضباط حائلا بين طبقات وفئات المجتمع بل واصبحت هي الحكم والادعاء لاي تهمة توجه لاي فئة من الفئات وانتصارا لطبقة علي طبقة، وفي قول اكثر صدقية تقليب طبقة علي طبقة. الوحيدون الذين اعفوا من عملية الفك والتذويب كان الاخوان المسلمين. حيث لا مقولة سياسية لديهم او برنامج اجتماعي عندهم اللهم الا اسلمة المجتمع دون اي فكر او حركة سياسية. ففي ظل الاسلام يستحيل لاي حراك اجتماعي ان ينجح والدليل هو فشل اي حركة سياسية اجتماعية أو حتي عقلية فكرية منذ ظهر الاسلام وحتي عصرنا الحالي. فهل كان عسكر يوليو الحاضنة والمرضعة لمن سيحكم بالاسلام فيما بعد؟
مرت حوالي تسع سنوات شغل فيها ضباط يوليو بمعركة التسليح والقناه بعد ان وضعهم حلفائهم في موقف محرج بسحب تمويل السد العالي. لم يدرك توم ان جيري يري الامور حسب عنوان كتاب مايلز كوبلاند الكاشف "لعبة الامم". فذهب من لا مذهب له الي السوفييت لانقاذه. ولانه لا مذهب له فقد عاملهم كما لو انهم باشوات الريف ممن وقعوا تحت امرته.
ففي زمن التوجه للسوفييت خرجت كتبا بعنوان "عندما تدخل الشيوعية بلدا" بغلاف احمر دموي كله صورا مما جري من فظائع في المجر. لم يجرؤ الزعيم علي فعلها ثانية عندما عندما اجتاح السوفييت تشيكوسلوفاكيا عام 1968، لانه كان قد وقع في قبضة جيري الصغير الغير شرعي للقط الكبير وحاجته كانت اعظم للسلاح السوفيتي الملحد.
كان توم اصغر من ان يتلاعب معه جيري الكبير فتركه لربيبة الاستعمار المسمي بالكيان الصهيوني. وفي زمن الاشتراكية كانت اخبار اغتيال الشيوعيين في السجون المصرية تصل الي الزعيم وهو في اجتماعه مع كبار الاشتراكيين في العالم مثل تيتو حيث فوجئ الاخير بها اثناء اجتماعه مع بطل التحرر القومي. كان الثوري راكب الدبابة الليلية يقدم عربون الولاء للراسمالية العالمية بإعدام الشيوعيين وهو جالس يتسول المعونات من اعدائها.فماذا فعل في راسماليته الموروثه منذ ليلة ركوب الدبابات؟
بنهاية زمن وحدته مع سوريا امم الرجل الشركات والمشروعات المصرية بعد ان بدد الاموال التي اخذها في التمصير سابقا. كانت تكلفة مشروعاته الخارجية وتامين ثورته داخليا تفوق الدخل القومي المصري. لهذا انتهت الخطة الخمسية الاولي بافلاس وبدون ايه فوائض مما ادي الي تاجيل الخطة الثانية التي كان موعد بدئها منتصف العام 1965.
شركات راسمالية كثيرة وضع علي راسها ضباطا لا علاقة لهم بالعمل والانتاج والادارة وكانت خزينة الشركات عامرة وقت التاميم لانها تحقق فوائض، اما في العام 1966 فقد بدأت الادارة في تصفية الودائع البنكية لصرف ارباح للعاملين!!!!! فمثلما انشات الثورة برجوازية رثة فقيرة في الريف تحولت بروليتاريا المدينة الصناعية رغم بعدها الشاسع عن الحداثة الي بروليتاريا رثة تتسول العلاوة في عيد العمال والمناسبات الدينية وتباع الاصول وتفك الودائع لدفع المرتبات، وليس بالتفاوض مع ملاك هياكل الانتاج ارتكازا علي كفائتهم في العمل وقدرتهم علي ضخ المزيد من الارباح في السوق.
ربط الرجل ونظامه مصيره بمصير العرب رغم ان تاريخه يختلف عن تاريخ العرب. العرب لم يعرفوا غير الاسلام بينما باقي المنطقة فكانت اكثر ثراءا ولم تنحصر في ذلك القفص الضيق. وكان الربط ضرورة لنظام لا يريد الا طبقات رثة لا تفكر ولا عقل سياسي لها، لهذا بدأ المشروع الاسلامي في ذات الفترة التي كان فيها المد الاشتراكي متصاعدا والذي توجه خليفه الزعيم والقارئ لبيان الثورة بجعل الشريعة المصدر الرئيسي للتشريع في دستور 1971. بعدها بدأت الفتن الطائفية المفتعلة عمدا بحادثة الخانكة انتهاءا بواقعة نجع حمادي في عيد المصريين المسيحيين هذا الشهر.
بعد ان انهي الزعيم ونظامه ترثيث الريف وشرع في ترثيث المدينة فان نظرته المستقبلية جعلته يضع لبناتها فيما يسمي الميثاق حيث افترض وجود دوائر ثلاث اسلامية وعربية وافريقية هي البيئة التي ينبغي التعامل معها. لكن ما حدث ان الرؤية المستقبلية كانت تهدف الي اسلمة الجميع. ولننظر لدور الازهر الذي صدر كل الاصوليات الي افريقيا وليست احداث الصومال والسودان ونيجيريا وموريتانيا الحالية ببعيده. ووجدت فلسفة الرثاثة ان مادام الغرب الراسمالي الاستعماري ليس مسلما وان السوفييت والصين من الملاحدة كذلك فان عدم الانحياز والحياد الايجابي يمكن ان يرتكز علي خصوصية ثالثة لا تتفق وهوية الكتلتين المتصارعتين في لحرب الباردة. هكذا تم دق الاسفين الاسلامي في المجتمع دون جهد او مشقة، فالغرب استعماري صليبي والشرق شيوعي ملحد.
كان نجم هذه الفترة الشيخ الغزالي والشيخ كشك حيث عرضا كراهيتهما للمرأة في حوارات حول الميثاق بحضور راكب الدبابة الاول ليلة 23 يوليو.التحضير لهذا تم علي يد كتاب يوليو الذين هالهم كشف المستور مؤخرا. كتب هيكل القائم بدور الوسيط والمحلل بتبرير الاشتراكية العربية فقارن وايد فكرة الترثيث الاجتماعي للطبقات باكملها حيث قارن بين الشيوعية والاشتراكية في ان الاولي لا تنفي الطبقات اما رفضه للثانية فلانها تقييم دكتاتورية لطبقة وحيدة، لكنه لم يتطرق الي تفسير او شرح كيف يتأتي لدكتاتورية العسكر ان تصل الي السلطة وهي غير مالكة لا لقوة العمل او هياكل الانتاج؟
كان الكذب والفجور والضجيج الاعلامي كاف لمنع اي صوت أن يسال. وجاءت الهزيمة لتنقذ النظام ولتصبح المحبس الذي يضمن عدم تسرب اي فكرة تنقد او تكشف ما هو قائم من تخريب، بالا صوت يعلو فوق صوت المعركة.
الان، هرم وشاخ النظام المصري وخرج من جوفه حزب حاكم هو ذاته امتداد لهيئة التحرير والاتحاد القومي والاتحاد الاشتراكي وحزب مصر والحزب الوطني. الخرف والهذيان هما من اعراض الشيخوخة خاصة لو انهما ما رسب في قاع الذاكرة زمن الطفولة الاولي. من مظاهر الشيخوخة ان يتذكر الفرد احداثا غاية في القدم رغم نسيانه لها زمن شبابه ونشاطه. فالذاكرة الانسانية تحوي كل ما مر علي الفرد. ولو اننا اعتبرنا ان المجتمع والنظام السياسي خاضعين لنفس الامر، فكلاهما كائن حي يهرم ويخرف ويصاب بالجنون ايضا وينهار ويموت. انها مظاهر ما قبل النهاية واسترجاع للذكريات القابعة في قاع الذاكرة شهدناها مؤخرا في حوار بين شخصيتين من فضلات النظام حيث قالا في جريدة المصري اليوم بتاريخ 12 و 13 يناير الجاري:
قال مصطفي الفقي في الجريدة: لا أعتقد أنه سيأتى رئيس قادم لمصر وعليه فيتو أمريكى ولا حتى اعتراض اسرائيلى للأسف.
فرد عليه محمد حسنين هيكل للتبرئة في اليوم التالي وبسرعة مدهشة فى ذات الصحيفة: أسئلة ضرورية حول مقولة مصطفى الفقى ، الرئيس القادم يحتاج إلى موافقة أمريكية وعدم اعتراض إسرائيل.
خلع الفقي سروال النظام فاسرعت الحيزبون الام لستر العورة. رحم الله مايلز كوبلاند والسفير كافري إذا كانا قد توفيا اما لو الامر غير ذلك فانا اسالهما بدوري ما العمل دام فضلكم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق