الاثنين، 27 أبريل 2009

العروبة ماتت بالسكتة القومية


نعم، حلمنا وتوهمنا وخدعنا.. وارتكبت أكبر الأخطاء دون التعلم من التجارب طريق الخلاص من التهريج! ثلاثون سنة باسم القومية العربية وثلاثون سنة باسم ما أسمى بالصحوة الدينية! لنتأمل حجم الانقسامات، وعوامل التقهقر، وانكفاء الحياة.. لقد توهم الناس كل الفذلكات صراحة، والبطولات أمجادا، والأكاذيب حقائق ، سألت أحد أبرز القادة القوميين وهو أكرم الحورانى عندما التقيت به ببيته فى الشميسانى بالعاصمة الأردنية، مساء يوم 7 / 11 / ,1996 قائلاً: كيف كنتم ستحكمون إن حققتم الوحدة العربية
قال: من خلال قيادتين قومية وقطرية، قلت له: وهل سيكون ذلك من دون انتخابات واستفتاءات للناس
قال متسائلاً: أتعتقد أن الأحزاب القومية تؤمن بالديمقراطية! قلت له: ولماذا أوهمتم الملايين بالحرية كمبدأ وهدف معاً
زاغ بصره قليلاً، والتفت يقول: إن تجاربنا القومية كلها مستلة من تجربة الحزب الوطنى الاشتراكى فى ألمانيا النازية! وأرجو أن تسجل هذا على.. فتجاربنا القومية فى الأربعينيات قد تأثرت بتجربتى ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية! قلت: وماذا تقول فى الرئيس عبد الناصر والناصرية
قال: نحن سبقناه، وجاء من بعدنا فركب الموجة، وغطى علينا لانسياق الجماهير وراءه، وكان بيننا وبينه ما صنع الحداد! (انتهى كلامه).
الانهزامية بطولة! كان من المحتم أن تنهزم القومية العربية، ثقافة وأيديولوجية كونها عبرت عن مصالح قوى حزبية، أو سلطات انقلابية، وحكومات عسكرية لا تعبر عن أمنيات مجتمع، وتنمية فكر واستنارة عقل! وعلينا أن نعلم أن «نزعة العروبة» قد استلبتها «الظاهرة القومية»، وتحدثت باسمها لزمن طويل! اليوم، كثيراً ما تشتم «العروبة» ظلماً وعدوانا، بسبب كراهية الموجات القديمة والجديدة للقومية العربية والفكر القومى العربى.. ولا يزال القوميون حتى يومنا هذا يدافعون دفاعاً مستميتاً عن تاريخهم، إزاء استثناء ثلة منهم، راجعوا أنفسهم، فوجدوا أن مجتمعاتنا عاشت مخدوعة خديعة كبرى بفعل الوازع القومى الذى لا وجود له فى مجتمعات لم تكن تعرف إلا ما يجمعها (عروبيا).. ولكن مع وجود خصوصيات يختص بها كل مجتمع عن الآخر. إن من المضحكات القومية أن تغدو كل هزائمها بطولات عظيمة!
معنى العروبة إن «العروبة» هوية ثقافية قديمة جداً، وأنها مجموعة قيم يتصف بها أبناؤها، أو من يعتز بالانتماء إليها، وسلسلة أساليب حياة تتوارثها الأجيال كابرا عن كابر، وأنها مجموعة من بقايا القيم والمواريث كالمروءة والسماحة، وهى الأسماء والفولكلوريات، وهى أساليب الحياة الثقافية المتوارثة بصالحها وطالحها، وبكل سوالبها وإيجابياتها سواء عند الحضر أو البدو.. وهى البيئة والصحراء والشعر واللغة.. هى الموسيقى والطرب وهى التى عبر من خلالها أصحابها فى قلب العالم القديم، وهى النسق الاجتماعى والثقافى لتراث حضارى بكل ألوانه وعناصره وتاريخه، أما القومية العربية، فهى ظاهرة أيديولوجية حديثة، تطورت عن «فكرة» سياسية لا يزيد عمرها على قرن واحد عربياً، وتبلورت متأثرة بالفكرة القومية التى نضجت خلال قرنين من الزمن أوروبيا.. ولقد وجدت القومية العربية لها عناصرها فى ظروف دولية معقدة، وتبلورت هى نفسها فى ظروف تاريخية صعبة، وتأثر أصحابها بالنزعات القومية الأخرى القريبة والبعيدة وبالأخص الأوروبية.. وإذا كانت قد نجحت فى أوروبا بتشكيل دول وممالك اتحادية كونها عبرت عن حقائق وواقع، فإن القومية العربية فشلت فى أهم مشروع نادت به هو «الوحدة العربية» كونه لم يعبر عن واقع أبداً!!
جعلوا الأوهام حقائق ومن أبرز مشاكل القومية العربية أنها احتكرت «العروبة» منذ نشأتها، وكانت ولا تزال تتحدث باسمها فى واحد من أخطر جوانبها المخفية عن الوعى والتفكير.. أما خطاياها الأخرى، فحدث عنها ولا حرج، ومنها «أوهامها» التى تعتبرها حقائق أساسية ومنها غلوها وتعصبها وتشددها ضد كل من لم يؤمن بها مهما بلغت درجة عروبته من العنفوان، ففقدت أيديولوجيتها مصداقيتها حتى عند العرب أنفسهم! هذا هو الفرق الحقيقى بين مفهومين اثنين لدى العرب المحدثين ومن يشاركهم حياتهم، وهم الذين لم يعلموا، حتى الآن، أن القومية العربية قد استلبت العروبة نفسها، وجردتها من كل المعانى بعد أن استغلت اسمها استغلالا خاطئاً.
كنت أتمنى عليهم! واليوم، لم ينفع نداء العقل ومطالبة كل المستنيرين للقوميين، أن يجددوا مضامين خطابهم، ويراجعوا مواقفهم، ويعترفوا بالأخطاء التى جنوها بحق أجيالهم.. كنت أتمنى على الثقافة القومية العربية أن تنتقد نفسها نقداً صارماً.. كيف أنها خدعت الملايين بتحقيق شعارات لا تستقيم والواقع! كنت أتمنى على مثقفيها أن يتأملوا كل الأهداف التى جمعتهم من دون تحقيق أى واحد منها! كنت أتمنى أن يعترف القوميون بالأخطاء الجسيمة التى ارتكبوها فى تهميش القوميات والأقليات الأخرى، بتفضيلهم العرب على شعوب أخرى.. والبقاء، وهم يسبحون ليل نهار بالمفاخر والأمجاد! كنت أتمنى أن يقرأ القوميون التاريخ بدقة متناهية ليجدوا أن مجتمعاتنا العربية لم تجمعها أية أهداف سياسية محددة، بقدر ما جمعتها أهداف حضارية كبرى! كنت أتمنى ألا تسرق العروبة بكل معانيها، لتستلب باسم القومية، إن العروبة، ثقافة مشتركة، ولغة واسعة، لها امتداد كبير من الزمن الحضارى! كنت أتمنى أن تحترم رموزنا، بدلاً من تبقى مقدسة فى الذات! كنت أتمنى أن من تعاد مراجعة التاريخ القريب لكى يحاكم المهزومون والمهرجون وكل الطغاة، ويخرج كل أصحاب الزعامة والفخامة والرئاسة من قاعات التبجيل فى مؤتمرات القمة إلى حيث مساءلتهم، عما اقترفوه بحق الناس.. وهل كانت خطاباتهم وأقوالهم وتصريحاتهم تعبر بصدق عن مبادئ، أم كانت لمآرب أخرى

من احتكر الأخر
كثيراً ما قورنت القومية العربية فى مدارسنا التى تعلمنا فيها بقوميات أوروبا بمنتهى الغباء والسذاجة! وكأننا بيئة مشابهة وتاريخ متجانس، وإذا كان القوميون قد احتكروا العروبة لأنفسهم، فهل ليست لغيرهم عروبتهم
فالقومية - هنا - تيار سياسى فقط، ولا يمكنها أن تحتكر العروبة كلها، وسواء كانت العروبة على صواب أم خطأ، فينبغى أن يدرك الجميع أن عروبتنا التاريخية القديمة لا علاقة لها بالقومية العربية، مع احترامنا للظاهرة القومية وما قدمته لتاريخ البشرية، لقد أضرت القومية العربية بثقافتنا، وساهمت فى تقسيم مجتمعاتنا على مدى قرابة ستين سنة، وبالرغم من كل الأدبيات التى تتضمن أفكاراً مثالية، ورؤى رومانسية، وخطابات ثورية، ولكن التطبيق كان قد جر إلى الخراب.
وأخيراً.. هل من رؤية جديدة
إن العروبة التى توارثتها الأجيال عبر التاريخ، ليست مجموعة أحزاب قومية كالتى عرفناها على الساحة، قد استلت أفكارها، ونصوص بياناتها، وبنود أنظمتها الداخلية، ومسرد خطابها من القوميات الأوروبية! لقد تربينا وكبرنا على أناشيد قومية، وشعارات قومية، وبيانات انقلابات قومية، وخطابات رائد القومية.. وفجأة ينتهى ذلك المد الطاغى الذى وصل الحد أيام غطرسته أن يذهب المرء إلى الجحيم إن انتقد بعض ممارسات بشعة قام بها ضباط مستهترون، أو حزبيون مناضلون، أو مصفقون ومهرجون!! لقد بات القوميون اليوم - كما يظهر - يهربون من استخدام القومية العربية، أو القوميين، أو الجماعات القومية.. ليلبسوا لباس الدين، أو يتشحوا بالعروبة، وكأن قوميتهم العربية قد أصبحت عتيقة مكسرة لا تقوى على الحياة! ولكنها مجرد سنوات ويرحل هذا الجيل الذى صفق للأحلام ليترك الساحة إلى مهرجين جدد يصفقون للأوهام ويا للأسف!
د. سيار الجميل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق