الأحد، 8 نوفمبر 2009

الشيخ الشعراوي

من ذا الذي لا يعرف الشيخ الفضيل. فنادرا ما يخلو منه تليفزيون شرق أوسطي. يعرفه الأطفال ومن بلغ الحلم. لكن عشقه يأتي من الكبار. مولوه برصيد هائل من الولاء والحب بعد فراغ الساحة من شخص مثل عبد الناصر.في بساطة الريف وأريحيته تأتى لغته. ومن سطوة المنبر والجامع يستمد هيبته. ومن قدسية النص الشارح له يسحب البساط من تحت مؤخرة سامعيه وهم جلوس. يجلس متربعا وكأنه في يوم الحساب لجموع بشرية شاخصة إليه من تحت قدميه. لا يجرؤ أحد علي نبت شفه قناعة منهم بأنهم مريدين وهو العليم. تبدو مهارته التي لا يباري فيها، ليس في قدرته علي توصيل نص مفحم شفاهه، لكن باستخدام لغة الجسد الإشارية التي تسبق تطوريا نطق اللسان عند بني آدم. فقسمات الوجه وحركات اليدين وتلوي الجسد ونبرة الصوت كلها أسلحة لا راد لقضائها إذا ما كان السامعين من جميع الطبقات في مصر الثورة. ما اسهل اختراقهم والنفاذ خلالهم ببساطة بعد عشوائية وارتباك الحراك الاجتماعي والسياسي في الحياة المصرية لخمسين عاما. في شرحه يزاوج المقدس بالشعبي والفصحي بالعامية يهزم الباطل بكلمــات يتطهر معها السامعين في مغسل الجمعة من كل أسبوع. هو واحد منهم لكنه متعال عليهم. ما يقوله هو نفس ما يجول بخاطرهم قياما وقعودا وعلي جنوبهم. فياله من توكيد لذواتهم العليلة وتصديقا لمكنون فكرهم. يأتيهم من فوق منبر ويتحدث نيابة عمن هو في علين. هكذا تسقط الحواجز الداخلية عندهم لتخفي شبهة شك فيما هم به مؤمنون. ويخرج المريدون في رضا مبددين شكوكا. ولكنهم يعيدون الكرة كل أسبوع لاسباب لا تخفي علي لبيب. فما كان مبهما في أذهانهم أصبح راسخا وما كانوا فيه من شك تحول إلى إيمان ويقين دون أي إضافة من الشيخ الجليل. ويتكرر العرض من كل أسبوع بتكرار قهري ووسواس. هكذا يصبح خطاب الآخرين اسفل المنبر وخارج الجامع وفي المدارس والجامعات من لغو الحديث. يجهد العقول ولا يرضي السامعين من كفر بواح وجهل المدعين. عند قدمي الشيخ الجليل يجلس العوام بعد تعليم مجاني وتأميم وبعد العمل عند الرأسمالي الكبير الدولة ذاتها. إنها الكتلة الوسطي انتقلت من ريف إلى حضر حاملة معا قيم الزراعة القديمة التقليدية إلى حضر ومدن سريعة يحكمها تقسيم عمل لا تباطأ فيه. ازدحمت بهم المدن بالإنجاب الريفي الذي لا يعرف الحدود. هكذا ضاق الرزق فارتدوا إلى عمال تراحيل موسميين في بلاد النفط بعد فقدانهم مهارة الزراعة في موطنهم الأصلي وعجزهم عن اكتساب قدرات الصناعة. رغم حملهم شهادات موثقة بأنهم متعلمين.شدد الشيخ وحذر وهدد دوما وأنذر علي ألا ينصت المريدين لأي معرفة خارج ما يلقيه علي أسماعهم. فهو من العلماء إن لم يكن كبيرهم. وباعتراف النص يخشون ويخشي منهم. إنها النخبة في عليائها، تعكسها وتصنعها حاجة المريدين الملحة بسبب فقرهم العقلي بعد أن خبت الثورة التي صاغت وضعهم المتدني وصاغت أيضا مقام النخبة.يلجأ الحواة إلى حيل تبدوا كمعجزات يهيم بها المشدوهين من المتفرجين أملا في أن تكون حقيقة قابلة للتحقق يوما فربما تحل مشاكل وتنفك عقد دون أثمان تذكر. ووجد الشيخ ضالته عندما تحققت المعجزة وبشهادة الجالسين في حضرته وقت أن تحول بدو الصحراء، وهم دون الريف، إلى ما بعد الحداثة برائحة النفط وأرصدة البنوك ذات البأس. فهم لم يشقوا ترعة ولم يفلحوا حقلا ولم يتسطحوا قطارا ولم يعملوا في مصنع ولم يتظاهروا في نقابة ولم ينسحبوا اكثر مرة من سيناء. لم يسددوا فاتورة واحدة وحصلوا علي كل شئ. إنها معجزة المعجزات. فيالها من عصا مغشوشة تلك التي كانت بيمين موسى.لقد اشتروا واجروا جيوشا تحارب عنهم ولهم، في طاعة وادب. لتأديب المرتدين في الحواضر العربية بعد أن أصابهم فساد الريف وفسق المدن. وتأديبا لهم علي اللعب بالقومية والعبث والكلام بأيديولوجيات غير موحى بها. هنا وجدت رثاثة المدن ضالتها في شيخ يفسر كل شئ دون تناقض واحد. لقد أعطاهم ما يسوغ به وجودهم ومعرفتهم ويردد أيضا صدق ما أتت به الصحراء يوما معطيا أصحابها شهادة منشأ جديدة بعد انتهاء الصلاحية وإحساس مرير بمهانة الإملاق والعوز. أنه الريفي الغريب يشهد للصحراء بالتفوق علي قومه. هكذا تولد عقد النقص والإحساس بالدونية. إنها نفس الأهداف التي جاءت بذات الشيخ بترشيح نخب ثورة وطنه. إنها المعادلة التلفيقية العامة لقوانين الاستبداد السياسي بتلفيق العلم والإيمان، الثورة والخضوع، النضال والطاعة، المعرفة والجهل. معادلة تشوه الجميع ومحصلتها صفرا.هكذا قدم الشيخ، الكاريزمي الشخصية، وصفته السحرية لرديف الريف وحثالة المدن. وكافأته السلطة السياسية لوصله ما انقطع تأثيرة بعد أن خسرت كثيرا من أوراقها في مسلسل هزائم طويل أمام ربيبه الاستعمار وليس الاستعمار ذاته. فقام الشيخ بدور ورقة التوت الغالية بالقرآن بعد أن سقط الميثاق، وبتفسير القديم بعد ان عجز الجديد. وبالترتيل بعد ان فشلت الخطب والحنجريات العربية. إنها نفس أدوار الترغيب والترهيب ، العصا والجزره ، الميثاق والقرآن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق