منذ بدأ الراحل د. مصطفي محمود في سبعينات القرن الماضي حلقاته الشهيرة عن العلم والايمان علي شاشة التليفزيون المصري حتي انبرت، او ربما دفعت السلطة السياسية، باكثر من وجه ليزيد الطين بلة ولتبدا كل انواع التلفيق بين اي نظرية علمية أو مشهد مادي وبين ما يجده العقل المسلم في طيات القرآن او الحديث.
كان البرنامج امتدادا لبرنامج سابق عليه باسم "نور علي نور" قدمت فيه شخوص اسلامية كالشيخ الشعراوي علي سبيل المثال لا الحصر.عجز المسلمون قديما وحديثا عن اكتشاف نظرية علمية واحده تفض غيمة غيبوبة العقل الاسلامي لكنهم كانوا حافظين لأي نص قرآني به اتفاق لفظي ما مع النظريات العلمية الحديثة. لم يترك د. مصطفي محمود مجالا علميا بدءا من قوانين الحركة والطاقة الي البيولوجي وعلم النفس حتي وجد نظرياتها كامنة في النصوص الاسلامية. لكن إضافته المهمة والتي سربها في احاديثه لتاكيد تلفيقاته كانت في وصم واتهام كل عالم اتي بنظرية لها صدي اسلامي مناقض ومختلف وليس بمؤمن ويا حبذا لو كان كافرا او ملحدا. وكانت لحظة الذروة تأتي لو انه كان من اصول يهودية. كان سيجموند فرويد ضحيته الكبري حيث اتهمه بكل انواع الرزائل. حتي مرضه بالسرطان فكان ضمن ما سلطه الله عليه لانه جاء بنظرية استعصي علي د. مصطفي إمكانية التوفيق بينها وبين ما جاء في القرآن.
فمجرد وجود لفظة النفس في القرآن فان برنامج العلم والايمان وجدها فرصة لكيل السباب للراحل فرويد لعدم امكانية التوفيق او التلفيق بين النفس الاسلامية والنفس الفرويدية المحددة بصرامة علمية لمحركات ودوافع يخاف الاسلام والمسلمون من الغوص في اعماقها.فالاتفاقات والاختلافات كان يتم تدبيرها او نسجها في البرنامج ليس لتعليم شئ جديد يفتقده المسلم انما لاعادة تاسيس ايمانه إما بكراهية كل ما اتي به العلم ولا يتفق والقرآن او بتمرير النظريات من الدين وليس من صانعيها ومكتشفيها والتي تحمل تشابها ولو لفظيا وضبابيا مع العلوم.بهذا تحول البرنامج الي ما لا يتفق واسمه، ولعل الاسم "الايمان والجهل" كان يكفي لاشباع المشاهد. رغم ان المشاهد كان جائعا للعلم وليس للايمان. فهو يمتلك الاخير لكنه يفتقد العلم.
فما اثبته الراحل صاحب البرنامج الشهير هو اتخاذ العلم ولو كان زائفا وسيلة للايمان مجددا، وبكلمات أخري تم خداعه عبر دعوته لمشاهدة العلم ومعجزاته فوجد نفسه امام وجبة ايمانية كان يتجرعها منذ طفولته وزمن جهله وجهل المسلمين طوال التاريخ.أتت الدعاية باكلها، فمع نهاية عرض حلقات البرنامج وحتي زمن وقف بثها عبر الشاشة الصغيرة حتي ظهرت دعاوي رجل الشارع الاكثرها ضجيجا ونبرة في القول بان "القرآن به كل شئ". وعلي المستوي السياسي ظهر الشعار الشهير الاسلام هو الحل. منذ تلك اللحظة غمرت الاسواق كتب وكتيبات كلها تشرح العلم بناء علي الايمان فقط لا غير. فالمسكوت عنه فيها انه لا داعي للعلم طالما نحن نملك الايمان. لم نسمع قبل ذلك الزمن التعس من يمنع ابناؤه من الذهاب الي المدرسة فيكفيه حفظ القرآن في البيت حتي يتفوق به علي "اينشتين" و "بيل جيتس". ولم يكن هناك من يدعي بوقر المرأة في البيت، فحاجتها للمعرفة يكفلها لها القرآن وفقط. الم يمرر البرنامج تلك الرسالة؟
لم ينس صاحب البرنامج الشهير نصيبه من التملق والمداهنة السياسية. فهو لم يترك فرصة الا وتعرض للغرب وخاصة امريكا بما يجعل السلطة السياسية تدخلة في رحمتها.جمهور المشاهدين وقتها كانوا ممن استفادوا من القرارات الاشتراكية وزمن الاتحاد الاشتراكي وكانت السلطة السياسية تفاخر بهم وباغاني عن تماثيل "رخام علي الترعة واوبرا" رحمة الله عليك يا جاهين. فالجماهير التي حشدوها اشتراكيا هي ذاتها التي عبؤوها ايمانيا. سلطوا عليهم "محمد حسنين هيكل" في اكبر صحيفة قومية ومعه صبيان تعلموا قواعد العنصرية القومية في الورشة الناصرية للافكار القومية. ومعهم فصيل يساري تم تدجينه واضعافه علي طريقة المضاد الحيوي لمكافحة الامراض الليبرالية الفتاكة.
جاءت الهزيمة بنهاية صلاحية هؤلاء جميعا فسلطت عليهم ذات السلطة د. مصطفي محمود ببرنامجه فاتي ابناؤهم بعد تربيتهم زمن الانتصار والعبور والعلم والايمان لهدم وتكسير وغلق اقسام النحت في كلية الفنون الجميلة والفصل بين الجنسين في قاعات الدرس بالجامعة ووقف المحاضرة لاداء الصلاة، والبقية تاتي.مولت السعودية البرنامج المروج للايمان علي حساب العلم، فجاءت اجيال جديدة من المرتزقة والدعاة الجدد يبحثون في ركام صفائح قمامة دول الخليج عن دور لخدمة الاسلام. فما اكثر الجنود المجهولون المتطوعون والمتنطعون لخدمة ما لاحاجة الي خدمته. كان الإسلام ديناً لا موقع له الا في المسجد. وابت السلطة الا بنقله الي غرف النوم مرورا بكل حارة وشارع وحي وحديقة عامة.وكان العالم خارجيا في غني عن الاسلام فهو المكتشف لكل النظريات التي ادعي الدعاة انه موجود في القرآن. بل ان الله وكل رموز الاسلام متوفرة بغزارة في العقل الغربي وعلي ارفف الكتبات وفي كتبهم المقدسة. وكان الفارق انهم يعلمون علم اليقين ان العلم شئ والدين شئ آخر وان التناقض بينهما جوهريا والتضاد بينهما حتمي. فما اجهل اوروبا زمن حكم الكنيسة. لهذا تم الفصل بينهما ووضع كل في مكانه احتراما له وليس امتهانا للدين. اليست تلك هي مبادئ العلمانية؟
أما الاكلة من صفائح القمامة، فقد غم عليهم الشهر فصاموا عن رؤية ما يقتاتون به من صفائح عامرة تمتلأ بفضلات موائد لم يسمع بها انس او جان، فلم يعد لديم من شئ يقولوه الا الدين وإعادة قراءة القرآن مرات ومرات وغثاء الفتاوي فتلك هي اهداف برامج النور علي النور والعلم والايمان. اما اغرب نتائج التلفيق فكانت في كتاب ظهر حديثا بعنوان "الاعجاز العلمي في الكتاب المقدس". عندما تصفحته علي عجل، لم تسعفني ايه آية قرأنية او حديث نبوي، لكني تذكرت نظرية رد الفعل الشرطي ضد المثير الخارجي والتكييف الإيجابي مع المؤثر الذي اتت في نظريات بافلوف وسكينر وسبنسر وشرحها "سيجموند فرويد" الذي لم يكن يهوديا الا بالميلاد.
أدعوكم إلى قراءة حوار مع جورج صليبة حول كتابه « العلم الإسلامي وصنع النهضة الأوروبيا »، الذي يتناول فيه أسباب تطور العلم في الحضارة الإسلامية من وجهة نظر اجتماعية.
ردحذف